مغترب من أصل سوري وجنسية اوسترالية: هل لبنان هو وطني؟… بقلم: جوناثان لحدو

ما هي المقوّمات التي تحدّد الهوية؟ أين هو الوطن؟ ما هو الوطن أصلاً؟ لقد خطرت تلك التساؤلات الوجدانية على بالي على مدى الأشهر التي قضّيتها وما زلت أقضّيها بالحجر.

إن لكل إنسان تجارب خاصة به وبالتالي تعريف شخصي عن هوّيته فطرحتُ لنفسي نفس الأسئلة التي أكرّرها منذ سنوات عديدة وهي “مَن أنا؟” و”ما هو وطني؟” مع أن هناك عدة وجهات نظر عن ما هو معنى الوطن، هناك قولٌ للروائي المصري نجيب محفوظ أحبّه كثيراً: “وطن المرء ليس مكان ولادته ولكنّه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب”.

لم يكن أبداً تحديد هويتي أمراً سهلاً لي، فإنني اليوم أشعر بانتماءٍ ما إلى بلدان كثيرة ومتعددة: أوستراليا، الإمارات، سوريا، لبنان، وأميركا. والسؤال الجديد الذي أطرحه لنفسي هو “هل سأجد ذلك المكان حيث ستنتهي محاولاتي للهروب؟”.

هل أستراليا هي وطني؟

في الحقيقة على الصعيد الرسمي فليس لي وطناً إلّا أستراليا والدليل على ذلك هو جواز سفري الأزرق اللون المزيّن بشعار أستراليا الذي لا أحمل غيره والذي منحني امتيازات لا حصر لها أقدّرها بشكل كبير.

ولكن لو كان الوطن مجرد حاصل جمع امتيازات وقوانين وسياسات لما واجهتُ السؤال المعقّد الذي أواجهه الآن. صحيح أن أستراليا منحت فرصاً لي ولوالديّ، من خلالها حقّقنا كل ما حقّقناه حتى الآن، أمّا في نفس الوقت تعرّضتُ للمحو الثقافي أيضاً من قِبلها. وأعد مثالَين من أبرز البراهين على ذلك المحو الثقافي: اسمي الثلاثي ولغتي الأم. ففي كل من هذين المثالين اضطرَّ والديّ أن يتّخذا قرارات من أجل اندماجي التام في البلاد الغريبة التي قد هاجرا إليها، حتى أصبح اسمي الثلاثي الذي كان من المفترض أن يكون “حنا سميح لحدو” حسب عاداتنا وتقاليدنا  “جوناثان ألكسندر لحدو” أي اسماً خالياً تقريباً كلياً من أية آثار لجذوري الثقافية كما صعّب عليّ قرارهما التكلم معي بالانجليزية فقط إتقان اللغة العربية التي ما زلتُ أسعى إلى إتقانها. وعلاوة على كل ذلك هاجرتُ بسنٍّ صغير مع والديّ وأختي إلى دبي وبالتالي لم أعش في أستراليا خلال أية فترة مهمّة من حياتي لأرتبط فيها وأعتبرها وطناً لي.

هل الإمارات هي وطني؟

إن كان الوقت عاملاً حاسماً في تحديد الوطن فيجب أن تكون وطني لأنني قضّيت أكثرية حياتي 13 سنة بالتحديد فيها. ولكنّها ليست وطني ولن تكون وطني أبداً ليس فقط بسبب مشاعري الشخصية تجاهها وإنما أيضاً بسبب سياسات الدولة الإماراتية. لم أفكّر بشكل نقدي في علاقتي مع هذا البلد حتى هجرتي منها إلى أميركا لمتابعة دراستي. وفي آنٍ واحد تركتُ أرضاً تربّيتُ فيها وأصبحتُ فيها سائحاً على الصعيدَي الشعوري والقانوني.

انتبهتُ لهذا التغيير عندما لاحظتُ أنني بدأتُ أن أقول للأميركان إنني “تربّيتُ في دبي” بدل ما أقول إنني مِن دبي عندما يسألونني  من أين أنت؟. مدينة دبي بالأساس هي مدينة فريدة من نوعها لأن أغلب سكانها تقريباً 90% هم أجانب ويفرض هذا الواقع عليهم أن يكونوا واثقين من هويتهم الوطنية. ومن الممكن أن يكون هذا معقولاً لمقيمي دبي من جيل والديّ الذين أتوا من مكانٍ ما ولكن ماذا عن جيلي أنا الذي لم نعرف بيتاً لنا إلّا في هذه المدينة المتعددة الجنسيات؟ وبالإضافة إلى ذلك خلقت دولة الإمارات بيني وبين لغتي وثقافتي العربية علاقة غريبة جداً لأن على الرغم من عروبتها الرسمية هناك أفضلية ملفتة وواضحة للبيض وللأوروبيين. وتجسّدت هذه الأفضلية في عدة مجالات وساحات من بينها المدرسة حيث لم تُعتبر العربية مادة جدية كان علينا أن نهتم فيها بل اُعتبرت إزعاجاً فرضته على المدارس وزارة التربية والتعليم. وبالتالي كان عليّ أن أجتهد في البيت لكي أتعلم لغة أمي وأبي العربية رغم كوني مقيماً في دولة عربية 

هل سوريا هي وطني؟

وُلد والدي في مدينة القامشلي قبل هجرته شاباً مع عائلته إلى أستراليا وبالنسبة لي فلقد زرتُ سوريا مرة واحدة فقط في حياتي عندما كنت صغيراً فلا أتذكّر الكثير منها ومن المهم أن أذكر أنني لم أزُر منطقة الجزيرة التي عائلة والدي منها.

في بعض الأحيان أندم على عدم انتمائي القوي إلى سوريا ولكنّني على كل حال أدرك أنه قوياً على قدر الإمكان. على الرغم من أن ليس لي ذكريات في سوريا أحاول بقدر ما أستطيع أن أحافظ على سمات الثقافة السورية العامة والخاصة بعائلتي التي قد شكّلت جزءاً هاماً من هويتي. على سبيل المثال حاولتُ أن أتعلم وأتقن اللهجة الجزراوية الخاصة بمنطقتنا التي ذكرتها سابقاً ومع أنني لم أتقنها بعد بشكل تام لا أحسّ بالراحة عندما أتكلم مع الأقارب من طرف والدي إلّا عندما أتكلم في هذه اللهجة. وجذوري السريانية التي ورثتها من والدي هي أيضاً جزء مهم من هويتي وأفتخر بجمال الثقافة والحضارة السريانية كما أتأثّر بتاريخ الظلم الذي تعرّض له أجدادي وشعبي بشكل عام. من ناحية الجنسية، كونه والدي سورياً يسمح لي أن أكون مواطناً سورياً ولكن الظروف السياسية لا تسمح لي بذلك فيصعب عليّ اعتبار سوريا وطني لعدم علاقتي الحقيقية معها رغم حقّي بادعائها وطني رسمياً.

هل لبنان هو وطني؟

لعلّها كتابة هذه الفقرة الأصعب عليّ. يعرف كل أصدقائي وأقاربي أنني أحب لبنان بشكل يكاد يكون متعصباً. مع أنني لم أُوْلد في لبنان، كما هو العادة عند الكثير من أولاد المغتربين اللبنانيين بدأت أن أزور ضيعة أمي سنوياً منذ عمر صغير. وبالتالي كان انطباعي عن لبنان يشبه انطباع أكثرية أولاد المغتربين، وهو أن لبنان أجمل بلد في العالم كنت اتحمّس لتمضية العطلة الصيفية فيه على الرغم من إحساسي الدائم بأنني لستُ مثل اللبنانيين المقيمين هناك بغض النظر عن أصولي اللبنانية. وبعدما قرّرتُ أن أقضّي تقريباً سنة كاملة في بيروت تلميذاً خلال دراستي الجامعية تغيّرت عقليتي كلياً ومن ثم وعيي بما هو لبنان خارج إطار وجهة نظر الولد الصغير الذي كان يزور ضيعته كل سنة.

للمرة الأولى في حياتي كنت شاباً ساكناً بلبنان  بمدينة بيروت وليس في الضيعة  تعرّفت على شباب من عمري من خلفيات مختلفة وكنت أدرس موّادا باللغة العربية مع زملاء وأساتذة لبنانيين مثلي. على الأرجح ليس هناك حارة بيروتية لم أزرها، حتى أصبحت الحارات التي تذكرها صباح في أغنيتها “ألو بيروت” معالم ذات ذكريات ملموسة في ذاكرتي.

سافرتُ في كل أنحاء الأراضي اللبنانية شمالاً وجنوباً وجبلاً وبقاعاً بالباصات والفانات وسيارات السرفيس. انضممت إلى النادي العلماني في الجامعة الأميركية في بيروت، وبدأت أكتشف وأفهم الإشكاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يواجهها اللبنانيون.

أصبحتْ لهجتي بالعربية تشبه لهجة شباب بيروت. شاركتُ بمظاهرات عدة نطقتُ خلالها كل هتاف بحماس وجدية. وبشكل عام أصبحتُ أشعر أن الشباب الذين تربّوا في لبنان كانوا يشبهونني أكثر مِمّا يشبهني أولاد المغتربين. وقد يظهر هذا الإحساس غير منطقي بما أنني ولدُ مغتربةٍ لبنانيةٍ ولكن أصبحت علاقتي مع لبنان أقوى وأعمق حيث لا أخذ بعين الاعتبار وجه لبنان الجميل فقط وإنما أيضاً وجهه البشع الذي أجتهد لتحسينه وإجمالا أقدر أن أتفاعل مع ثقافة لبنان المعاصرة وأحداثه الجارية بشكل صادق لا سطحي. ومع ذلك ما زلتُ مغترباً ويفصلني هذا الاغتراب عن مقيمي لبنان فصلاً لن أقدر أبداً أن أمحيه وبالإضافة إلى ذلك الدولة اللبنانية الأبوية العنصرية لا تعترف بي مواطناً لبنانياً رغم كون أمي مواطنة لبنانية، ويجعلني هذا الواقع اتساءل باستمرار “هل يحقّ لي فعلاً أن أعرّف عن نفسي لبنانياً؟”، وطبعاً رغم رغبتي الشديدة في العيش في لبنان أدرك أن الظروف المعيشية لا تسمح بذلك الآن ومع أنني أحاول أن أجعل لبنان مكاناً يقدر جميع اللبنانيين أن يعيشوا فيه بكرامة إن كان من خلال المشاركة في مبادرات اجتماعية ودعمها أم بأي سبل أخرى لست متأكداً من أنني سأرى لبنان كذلك المكان في حياتي.

هل أميركا هي وطني؟

ربما يجب أن أعيد صياغة السؤال: هل أتوقع أن ستصبح أميركا وطني؟ إجابتي على هذا السؤال قبل أربع سنين تختلف تماماً عن إجابتي عليه الآن. قبل أربع سنين كنت تلميذ ثانوية في دبي لم أكن زرت أميركا ولا مرة بحياتي كنت أتطلع إلى مستقبلي في هذا البلد الذي تعرضه سينما هوليوود على أنه مكان مثالي. حلمت باكتساب الجنسية الأميركية وتمضية بقية حياتي في أميركا حيث كنت سأحقق كل طموحاتي. الآن بعد تمضية أربع سنين هنا، رأيت وجرّبت أميركا الحقيقية الموجودة وراء شاشة هوليوود.

لا أندم أبداً على قراري بمتابعة دراستي الجامعية هنا (ما زلت أعتقد أن ليس هناك تجربة تعليمية جامعية أفضل من التجربة الأميركية وقد تعرّفت على أعز أصدقائي هنا) ولكن يا ليتني كنت حضّرت نفسي لمواجهة عجز الدولة الأميركية التي تشبه دولة فاشلة من عدة نواحِ. بالإضافة إلى المشاكل التي تمنعني من تصوّر مستقبلي هنا، مثل عدم وجود أي وعي لدى الشعب الأميركي الأناني (في كل المجالات) وعدم قدرة الدولة على السيطرة على وباء كورونا رغم ثروتها وتطوّرها..

لديّ تجارب هنا قرفت منها لدرجة أنني لا أرغب في البقاء في أميركا على المدى الطويل. على سبيل المثال بعد رفض طلبي الأول، بعد دفع رسوم طلبين وثمن إرسالهما بالبريد (حوالي ألف دولار أميركي إجمالاً)، بعد مكالمات لا تحصى لدائرة خدمات الهجرة والجنسية الأميركية انتظرتُ فيها كل مرة على الأقل 45 دقيقة لأتكلم مع موظف لا يقدر أن يساعدني ولا يقدر أن يعطيني المزيد من المعلومات بشأن طلبي، بعد أربعة أشهر ونصف الشهر من أشدّ قلق قد واجهته بحياتي كلها، ما زلت انتظر الموافقة على طلبي لتصريح العمل. لماذا سأحاول أن أستقر في هذا البلد وأدعوه وطني بعد تجربة كهذه وبما أنه يذلني بتصنيفي رسمياً “كائناً أجنبياً غير مقيماً”؟.

على وجه العموم، هدفي في كتابة هذه المقالة كان اتضاح أفكاري بشأن الأماكن العديدة التي أحسّ بالانتماء إليها بشكلٍ ما كما كان هدفي الإجابة على السؤال التالي: “هل سأجد ذلك المكان حيث ستنتهي محاولاتي للهروب؟”. بكل صراحة لا أظن أنني سأجد هذا المكان إلا بعد سنوات طويلة ولكنّني أقدّر أهمية رحلتي قبل الوصول إليه كما أقدّر أن مهما كانت علاقتي مع البلدان التي كتبت عنها معقّدة ما زال يشكّل كل واحد منها جزءاً مهماً من هويتي الشخصية.

يجوز أن وطني ليس مكاناً واحداً بل عدة أماكن وهذا الاحتمال جميل بحد ذاته. على كل حال، كلما استمع إلى أغنية “نسّم علينا الهوى” للسيدة فيروز واتعاطف مع قولها “فزعانة يا قلبي اكبر بهالغربة وما تعرفني بلادي” سأظل أفكر في هذه الغربة وما تعني الغربة لي حتى أفهم ما يعني لي الوطن.

الكاتب: جوناثان سميح لحدو

Post Author: SafirAlChamal