ما بين طرابلس وتركيا.. أكثر من علاقات!… غسان ريفي

تستمر المخيلات السياسية والاعلامية في إبتداع سيناريوهات وفبركات عن مشروع تركي سياسي ـ أمني في طرابلس وشمال لبنان يتضمن تجنيد شبان ودفع أموال تمهيدا لوضع اليد التركية على هذه المنطقة وإستخدامها ″عندما تدعو الحاجة″.

وقد جاء كلام رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الأخير في هذا السياق، ليؤكد أن هناك من يصرّ على الاساءة لطرابلس وإتهام أهلها بالخروج على الدولة والسير بمشروع خارجي، ضاربا بعرض الحائط تاريخ هذه المدينة وتضحياتها، ووطنية أهلها الذين تجاوزوا كل إهمال وحرمان الدولة اللبنانية منذ الاستقلال وتمسكوا بوطنهم حرا سيدا مستقلا، فضلا عن الاساءة للأجهزة الأمنية التي من المفترض أن تكون حاضرة لمواجهة أي إختراق من هذا النوع.

لا يختلف إثنان على أن لتركيا مكانة كبرى في طرابلس، لكن ذلك لا يُحسب من ضمن إزدواجية الولاء السياسي أو الوطني للطرابلسيين، بل هو يعبر عن عاطفة جياشة لشارع لبناني سني عريض تجاه تركيا تتجاوز العلاقات والصداقات، وقد بلغت ذروتها مع وصول رجب طيب أردوغان الى السلطة، حيث هبّ الطرابلسيون الى الشوارع تضامنا معه ودعما له إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها.

ساهمت الجمعيات الطرابلسية التي تهتم بالعلاقات اللبنانية ـ التركية بفتح الأبواب أمام أبناء المدينة الراغبين بنيل التعليم العالي في الجامعات التركية، كما لعبت دورا مميزا في تنشيط مؤسسات تركية إنمائية وثقافية وتجارية، وكذلك دفعت بلدية طرابلس خلال العقدين الماضيين الى إقامة علاقات توأمة مع مدن: إسطمبول، كاتشي أوران، قونيا الكبرى، غازي عنتاب، بورصا، كما انضمّت البلدية الى اتحاد بلديات العالم التركي.

وهناك المئات من العائلات الطرابلسية تتحدر من أصول تركية ولديها نفس العادات والتقاليد، وبعضها يحمل الجنسية، وبعضها الآخر يسعى الى إستردادها، ما يدل على عمق العلاقات الطرابلسية ـ التركية والتي لم تكن محصورة بالحقبة العثمانية فقط، بل هي بدأت منذ عهد المماليك حيث كانت طرابلس مركزاً لنائب السلطان الذي كان مقرّه في مصر، علما أن المماليك يتحدرون من العرق التركي، وكانت سلطنتهم حليفة للدولة السلجوقية التي تحكم تركيا، لذلك فإن أكثرية نواب السلاطين الذين حكموا طرابلس هم من أصول تركية ويحملون أسماء تركية مثل: إسندمر الكرجي (باني محلة السويقة)، عز الدين أيبك (باني حمام عز الدين)، شهاب الدين قرطاي (باني سوق العطارين وجامع القرطاوية)، سيف الدين طينال (باني جامع طينال)، أرغون شاه (باني جامع أرغون شاه).

عمل العثمانيون على تطبيع العلاقات مع طرابلس التي كانت لها مكانة كبرى لدى كل سلاطين بني عثمان، فحوّلها هؤلاء الى مركز دائم للولاية (مركز إقامة الوالي العثماني) لكونها كانت ترفد كل ولايات السلطنة بالمفتين والمشايخ والأطباء والخبراء، كما كانت ترفدها بالصناعات المختلفة. وثمة روايات تقول إن “حريم السلاطين العثمانيين” كنّ يطلبن الصابون الطرابلسي الفوّاح، فيصار الى نقله ببواخر خاصة من الميناء في لبنان الى اسطنبول.

تشير المعلومات التاريخية الى أن الكثيرين من أبناء طرابلس تبوأوا مراكز هامة في دوائر السلاطين، وحملت عائلاتهم أسماء المناصب التي شغلوها وهي ما تزال حتى الآن موجودة في المدينة وتتباهى بأصولها العثمانية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، في المجال العسكري، عائلات: سنجقدار، بيرقدار وجبخانجي. وفي المجال الإداري، عائلات: خزندار، تحصلدار، دفتردار، وفي المجال المهني، عائلات: صابونجي، كندرجي، قندقجي، خانجي، خربطلي، لاذقاني، اسكلمجي، سبقجي، جنزرلي، وفي المجال الديني، عائلات: مولوي (تعود الى مولانا جلال الدين الرومي مؤسس الطريقة المولوية في قونيا)، الدرويش، النقشبندي، الشلبي، الولي، ولي الدين، علم الدين، إضافة الى عائلة سلطان التي تُنسب مباشرة الى السلاطين.

وشهدت طرابلس خلال العهد العثماني قيام السلاطين بإرسال أشخاص من مدن تركية الى طرابلس للقيام بمهمات مختلفة، وما لبثوا أن أقاموا في المدينة واستقروا فيها وحملت عائلاتهم أسماء المدن التي أتوا منها وفي مقدمة هذه العائلات: مرعشلي (مدينة مرعش)، إسطمبولي وإسلامبولي (إسطمبول)، إزمرلي (إزمير)، عنتبلي (غازي عنتاب)، أورفلي (أورفا)، أفيوني (أفيون).

ومنحت السلطنة العثمانية عائلات طرابلسية ولبنانية مختلفة ألقاباً عدة، فنسب آل الميقاتي في طرابلس يعود الى “المشايخ المؤقتين”، الذين كلفهم السلطان العثماني بمواقيت الصلاة في الجامع المنصوري الكبير، إضافة الى لقب “أفندي” الذي أُعطي لآل كرامي، ولقب “بيك” لعائلات: المرعبي وعلم الدين وحمزة وغيرهم ممن خلع عليهم السلطان العثماني لقب “شيخ” وأكثرهم من جبل لبنان (موارنة) أو باشا أو غير ذلك.

لم ينته الترابط بين طرابلس وتركيا عند هذا الحد، بل إن السلطان العثماني اختار طرابلس مع مدن أخرى لإسكان المهاجرين من جزيرة كريت بعد سقوطها بيد اليونانيين، حيث يوجد حي المهاجرين في التبانة لغاية الآن، ومن أبرز العائلات التي جاءت من كريت واستقرت في طرابلس: بكراكي، قبضاكي، سقلاكي، قبلاكي وغيرهم.

وثمّة مَن جاء مطلع القرن الماضي الى طرابلس من بلدة ماردين التركية بحثاً عن فرص عمل ويعرفون اليوم بـ “المردلية”، وهم أقاموا في طرابلس وأصبحوا من نسيجها الاجتماعي ويعدون اليوم بالآلاف وبعضهم يسعى الى استعادة الجنسية التركية من خلال الحصول على بطاقات الهوية من أقاربهم في “ماردين”، شرط أن تحمل اسم الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك، ومن أبرز هذه العائلات: الماردلي، إبراهيم، مقصود، شيخو، عمران، مراد، خلف، العلي، حيدر، حسن وغيرهم”.

كما أن لـ “التركمان” الذين أرسلهم السلاطين لحماية أراضي السلطنة حضورا في طرابلس وهم من أصول عثمانية صرفة، ومن أبرز عائلاتهم: تركماني، تركي والترك، والأكثرية الساحقة منهم تتمركز في بلدتي عيدمون والكواشرة في عكار، وهاتان البلدتان توليهما الحكومة التركية اهتماماً خاصاً ومباشراً على صعيد المشاريع التنموية.

كل ذلك يدل على عمق ومتانة العلاقة التاريخية بين طرابلس وتركيا والتي تسمو على أي إستخدام أمني أو سياسي مفبرك، ويؤكد في الوقت نفسه أن كل الاتهامات التي تساق في هذا الاطار هدفها الاساءة الى هذه العلاقة، وتشويه صورة الفيحاء وشيطنتها وتحويلها الى هدف محلي أو إقليمي، علما أن ما بين طرابلس وتركيا تترجم اليوم بأبهى صوره على الصعد الانمائية والأكاديمية والتجارية والاقتصادية والسياحية والثقافية، وما دون ذلك هو مجرد خيال مسموم يدل على حقد أصحابه على المدينة وأهلها.


مواضيع ذات صلة:

  1. أوقفوا الموت المجاني في طرابلس!!… غسان ريفي

  2. ماذا تعني ″ساعدونا لنساعدكم″؟… غسان ريفي

  3. الدول الداعمة للبنان.. ″قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجر″!!… غسان ريفي


 

Post Author: SafirAlChamal