واقع الأزمة التجاريّة في عين الإنهيار!.. بقلم: غسان الحسامي

مشهد يتناول واقع الأزمة التجاريّة ″الكارثيّة″ ما قبل كورونا وما بعدها، بشقيها ″الماكرو تجاريّ″ على صعيد كل الوطن، ″والمايكرو تجاريّ″ على صعيد أسواقنا المحليّة في طرابلس، إن جمعيّة تجَار طرابلس (1939) وهي ثاني أقدم جمعيّة تجار في لبنان بعد بيروت (1921)، والتي تحرص على أفضل علاقات التنسيق والتعاون مع كافة مكوّنات المجتمع التجاريّ بعامّة، ومع جمعيّة تجار بيروت بخاصة التي يجمعها ارتباط تاريخيّ مبني على الإحترام والثقة والتعاون والهادف دوماً للدفاع عن حقوق الزملاء التجار وحماية مصالح القطاع التجاريّ الذي يمثل العمود الفقريّ للإقتصاد اللبنانيّ، إنما من أسف بالغ نراه اليوم يواجه أسوأ مرحلة في تاريخ لبنان والتي تهدد مصيره واستمراريّتة، إذ دخل مرحلة النزيف القاتل، وهذا ينسحب على سائر القطاعات الإقتصاديّة.

″في الماكرو – Macro″

لم نتخلّف يوماً عن مشاركتنا في الإجتماعات الموّسعة والمؤتمرات التي كانت تعقد في بيروت والتي دوماً رفعنا فيها الصوت والمذكرات الى المراجع المعنيّة وأذكر منها إجتماعنا لمرتين مع لجنة الإقتصاد الوطنيّ والتجارة البرلمانيّة برئاسة النائب نبيل دو فريج الذي صرّح عقب إحداها للإعلام “كنا نتوقع في لجنة الاقتصاد ان نسمع ارقاماً سيئة عن قطاع التجارة، لكننا لم نكن نتوقع ان نسمع ارقاما كارثية.

وما تلاها مؤخراً بتاريخ 10 تشرين الأول 2019 من وقفة احتجاجية تحذيريّة التزم بها تجار من كل مناطق لبنان تحت عنوان: “معاً لمنع انهيار القطاع الخاص”، إلى أن انفجرت الأوضاع بعد اسبوع واحد وبدأت ثورة 17 تشرين الأول 2019.

إذاً نحن لم نتوان يوما عن القيام بواجبنا الوطنيّ وتحملنا لمسؤوليّة القطاع الذي نمثّل، منبّهين ومحذرين المعنيين على أننا باتجاه منحدر يأخذنا نحو الإنهيار ما لم تأخذوا على محمل الجد معالجات طارئة وفوريّة.

فإذا كنا إزاء هذا المشهد نعاني حصراً من أزمة “طلب” مزمنة وتراكميّة بحيث باتت الحركة التجاريّة مشلولة ومواسم الأعياد شحيحة، لنجد أننا وقعنا اليوم (بعد ثورة 17 تشرين الأول) في أزمة “عرض” أيضاً من جرّاء التدابير المصرفيّة والإجراءات المشدّدة بالسحوبات وبمنع التحويلات وبالتالي إنعدام السيولة وتجميد حركة الإستيراد والتصدير، والحد من القدرة على الإستهلاك ناهيك عن هبوط سعر العملة تجاه الدولار وتدني القدرة الشرائيّة بفعل التضخم وارتفاع الأسعار، مما فاقم حالة الإنكماش والكساد غير المسبوق وذلك ما يُعرف بال Stagflation، مما دفع الى اقفال مئات المؤسّسات، وصرف نحو 220 ألف موظف من القطاع الخاص في لبنان حسب آخر تقرير إحصائي صادر عن شركة Infopro، أي زيادة  160 ألف حالة صرف كانت حتى نهاية شهر تشرين الثاني 2019.    

2 (17)

″في المايكرو – Micro″

فإذا كانت أزمة لبنان الإقتصاديّة قد بدأت بالتفاقم منذ العام 2011 مع اشتعال الحرب في سوريا إلا أن الأزمة في طرابلس قد سبقتها بثلاث سنوات أيّ منذ 2008 مع بداية مرحلة جولات العنف والإقتتال التي استمرت حتى تشرين الثاني 2014 وانتهت بمعركة السوق العريض، كذلك لم نتوان يوماً عن متابعة شؤون وشجون الزملاء التجار مع حرصنا الدائم على أفضل علاقات التعاون والتنسيق مع الزملاء في جمعيّة تجار شارع عزمي ومتفرعاته برئاسة الأخ طلال بارودي وغرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال برئاسة الأخ توفيق دبوسي.

أذكّر باليوم الذي رفعت فيه جمعيّة تجار طرابلس الى فخامة الرئيس ميشال سليمان صندوقاً سلمته بيدي، وجمع مئات المفاتيح لمؤسّسات ومحال طرابلس التجاريّة المستنزفة والتي عبّرت عن استغاثتها إذ لم تعد تستطيع تحمل المزيد من النزيف الذي يهدد أمنها الإجتماعيّ والإقتصاديّ.

ومنذ العام 2013 نبهت جمعيتا تجار طرابلس وشارع عزمي الى مخاطر المرحلة يوم أصدرت بياناً مشتركاً ناشدتا فيه جميع السّادة مالكيّ المحال والمقاسم التجاريّة على إختلافها، أن يُعيدوا النظر ويتعاونوا في هذا الظرف الحرج والإستثنائيّ بتخفيض قيمة الإيجارات والإستثمارات إسهاماً بالحفاظ على الأمن الإجتماعيّ والإستقرار الإقتصاديّ منبهين الى مخاطر الإخلاءات والشغور الكثيرة التي سوف تهدد مصير التاجر والمالك في آنٍ معاً، وها نحن اليوم نجدد هذا النداء المحق أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

أما عن معاناة طرابلس المزمنة، فلا تزال الدولة تمعن بتهميشها وحرمانها والإقتصاص منها بتغييب تام للمشاريع التنمويّة، مما أدى الى تحجيم دورها كعاصمة خدماتيّة اقتصاديّة، من خلال تعطيل مرافقها الإقتصاديّة الحيويّة فضلاً عن تنامي ظاهرة الإكتفاء الذاتي الواسع النطاق الذي عم معظم المناطق والأقضيّة المجاورة.

لكي أقارب الوضع التجاريّ الراهن في طرابلس بموضوعيّة فقد أتخذت لنفسي المنهجيّة التاليّة، وهي اعتمادي لخارطة افتراضيّة تقسّم المدينة تجاريّاً الى ست مناطق، مستنداً الى مسح ميدانيّ قمت به شخصيّاًّ:  

-1 منطقة الأسواق الداخليّة – طرابلس التاريخيّة

-2 المنطقة الوسطى التي تضم: التل، البولفار، المصارف، الجميزات، شارع عزمي ومتفرعاته، الثقافة، المطران، مار مارون، قاديشا، نديم الجسر، المنلا، المئتين، وطريق المينا.

-3 منطقة المعرض والضم والفرز، التي تخضع بغالبيتها الى قانون العقود الحرّة الإستثمار.

-4 أسواق مدينة الميناء

-5 أسواق منطقة القبة

-6 أسواق منطقة أبي سمراء

في هذا السياق سوف أتحدث فقط عن المنطقتين الأولى والثانية، كالتالي:

المنطقة (1) تخضع محالها التجاريّة بنسبة 95% الى قانون الإيجارات القديم وتعديلاته التي طرأت منذ العام 1992، والذي يلحظ حمايتها بالإستمرارية الى حد ما، فبالتالي إن هذه المحال والتي بمعظمها (تجارة أجيال) يتوالى عليها الأبناء والأحفاد، تكابد ظروف مختلفة عن سواها للبقاء والإستمراريّة، والتي عانت أكثر من سواها من وطأة الإضطرابات الأمنيّة وجولات العنف والإقتتال والتي أفقدتها الكثير من حركة الزبائن والوافدين إليها، مما أسفر عن خسارتنا لسوقٍ أساسيّ بكامله (التربيعة) الذي لطالما رفد إنتاجه وأصنافه الى كافة المناطق اللبنانيّة، هذا فضلاً عن الأحوال الصعبة التي يكابدها تجار سوق القمح والخضار وباب التبّانة.  

المنطقة (2) تتوزع محالها التجاريّة تقديريّاً على النحو التالي:

30% منها تخضع لقانون الإيجارات القديم وتعديلاته 92/160

70% منها تخضع لعقود حرّة إستثمار.

في هذه المنطقة تنقسم حالات إقفال المحال التجاريّة الى أربعة أنواع أو حالات:

أ ـ (الإقفال التام) بسبب التعثر المتراكم والإستنزاف المستمر والأكلاف التشغيليّة المرتفعة وبطليعتها “قيمة الإستثمار”، فضلا عن حالة الجمود بالحركة التجاريّة، حيث أسفرت تلك الإقفالات عن صرف للموظفين بالتالي ارتفاع معدل البطالة.

وفقاً لإتخاذي أحد عشرة موقعاً وهي الأكثر تأثراً والتي تضم نحو 950 محلا، تشير الإحصاءات الى إقفال 269 محلا منها أيّ بمعدل وسطيّ نسبته 28%، كالتالي:

        الموقع التجاريّ بالشارع الرئيسيّ     عدد المحال     المقفل منها    النسبة%

1 شارع نديم الجسر 67 15 22.5%
2 متفرعات شارع نديم الجسر 31
3 شارع قاديشا 52 15 22.5%
4 شارع مارمارون 36 7 19.5%
5 شارع المنلا 60 34 57%
6 سنتر عزمي 25 7 28%
7 شارع الشيخ جميل عدرة 81 22 27%
8 شارع نقابة الأطباء 92 24 26%
9 شارع التوجيه 78 31 40%
10 منطقة الثقافة 190 55 29%
11 شارع الميئتين – د.عبداللطيف البيسار 177 47 27%

3 (10)

ولكن من أسف بالغ النسب مرشحة الى ارتفاع مع الأيّام القليلة المقبلة.

(الى ذلك أفادني رئيس جمعيّة تجار شارع عزمي الأخ طلال بارودي عن إقفال حوالي ستة محال تجاريّة في شارع عزمي الموصوف بحيويته وأهميته والتي لم يشهد هكذا حال على مرّ التاريخ).

ب ـ (إقفال تحويلي أو استبدال)، أيّ نتيجة التعثر والكساد الذي يعاني منه التاجر، مما يضطره الى التوقف عن العمل وتأجير محله الى شخص آخر. لذلك بتنا نشهد بالآونة الأخيرة تقلب ملحوظ لعدد من اللوحات التي تحمل أسماء تجاريّة جديدة، ومنها قد يكون “لنازح سوريّ”، تقدّر بين 3-6%.

ج ـ (إقفال إنتقال)، الذي يتمثل برغبة التاجر باستمراره بتجارته لكنه يسعى الى الإنتقال لمأجورٍ آخر أقل كلفة، لذلك بتنا نرى حركة ملحوظة متنامية نوعاً ما بشوارع فرعية تقدّر بين 4-7%.

د ـ (إقفال فروع)، يتمثل بالحد من التوسع وانفلاش المؤسّسة الواحدة بالتالي الإقتصار على الموقع الأفضل، والأقل كلفة.  

بعض نتائج تداعيات الأزمة:

1ـ هناك بعض المحال التجاريّة الخاضعة للعقود الحرّة بدأت مع بداية السنة تساوم مالكيها بتخفيض قيمة الإستثمار السنوي تحت التلويح بالإخلاء، مثلا من 35 ألف $ الى 24، أو من 18 ألف $ الى 12 ألف.

2ـ بموازاة ذلك هناك إشكالية قانونيّة بين المستأجر والمالك طرأت بقيمة تسديد بدل الإيجارات ولو كانت العقود محررة بالدولار الأميركي، (بسبب شح الدولار بالسوق، وتسعيرة السوق السوداء)، لنجد ان التاجر يصر على تسديدها بسعر الصرف الرسميّ، ولو اضطره الى إيداعها لدى دوائر كتاب العدل، والبعض يعتبرها دفعة على الحساب ريثما يستقر سعر الصرف.      

3ـ هبوط ملحوظ بقيمة الأملاك العقاريّة، وقيمة الإستثمار.

4ـ فضلاً عن الصرف النهائيّ للموظفين والعمّال لوحظ أيضاً:

     * توقف مرحليّ ظرفيّ لبعض العمال والموظفين عن العمل.

     * إلزام البعض بنصف دوام.

     * تخفيض عدد العمالة في المؤسّسة الواحدة.

     * اقتطاع من الرواتب والأجور يصل الى 50%.

5ـ تراجع بالغ بالتداول بالشيكات التجاريّة.

6ـ تخفيضات وعروضات مغرية بالأسعار على الدوام.

 7ـ تعثّر بعض المحال التجاريّة من التبضّع والبقاء على موجودات بضائعها.  

أخيراً وليس آخراً، بعد مرور قرابة الأربعة أشهر على الثورة السلميّة، والتي لا تزال الدولة صمّاء عن مطالب الناس والتجار وأوجاعهم المحقة، أرى إزاء أزمة فقدان الثقة بين المواطن والدولة، وبين الدولة والمجتمع الدولي، وبين التجار والموردين في الخارج، ولكي نرتقي الى مستوى كل هذه التحديات، ينبغي بعض من المعالجات السريعة التالية:

أولا: خلية أزمة – خطة طوارىء إجتماعيّة اقتصاديّة.

ثانيا: صدمة إيجابيّة كبيرة تبدأ بمحاسبة الفاسدين، واسترجاع الأموال المنهوبة…

ثالثا: الحفاظ والتمسك بنظامنا الإقتصاديّ الليبراليّ الحرّ الذي نخشى أن يتغير،

والخوف كل الخوف من فقدان سيادتنا الإقتصاديّة والخشية من أن نرتهن لإملاءات البنك الدوليّ وعلاجاته الموجعة.          

رابعا: ترميم إهتزاز الثقة في القطاع المصرفيّ من خلال إجراءات مرنة.

خامسا: الحد من تورم القطاع العام.

سادسا: تحفيز وتفعيل عجلة الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

سابعا: عدم فرض ضرائب جديدة وتخفيض شامل للضرائب والرسوم.

ثامنا: إصلاح الإدارة، ضبط عمليات التهريب، مراقبة الحدود غير الشرعيّة.

تاسعا: حذار تجميد أو اقفال المؤسّسة الوطنيّة للضمان الإجتماعيّ كما يشاع مؤخراً.

عاشرا: حل مجلس النوّاب الحاليّ وانتخابات نيابية مبكرة.

4 (6)

كورونا قسمت ظهر التجار

لم يعد لديهم من اللحم الحيّ ما يقاومون به

حتماً ما بعد كورونا ستكون نسب التعثر لدى العديد من التجار قد ارتفعت، وتفاقمت أعداد المحال التي أقفلت الى غير رجعة، والصابرون مما تبقى يُستنزفون يوميّاً بحكم قرار التعبئة العامّة والإقفال التام القسريّ الذي طال معظم المصالح التجاريّة باستثناء القلة القليلة التي صنّفتها الدولة مثل قطاعيّ المواد الغذائيّة والطبيّة والمحروقات.

ومن أسف بالغ وألم عميق يردني يومياً نداءات استغاثة من عدد من الزملاء التجار الذين باتوا بحاجة الى الحد الأدنى من مقوّمات العيش والبقاء، إزاء ما يكابدون من خسائر فادحة وكارثيّة ناجمة عن تراكمات لحالة الكساد، والإنهيار الإقتصاديّ، وانخفاض القيمة الشرائية بنسبة تزيد عن 50%، والإجراءات المصرفيّة المشدّدة والمُجحفة، وكل ذلك في ظل غياب تام لأيّ نوع من الحوافز والمبادرات الداعمة للتعويض عن القطاع التجاريّ الذي بات يواجه أشرس أزمة ومعركة تهدد وجوده ومصيره، فالسيولة شحّت وانعدمت، ولم يعد لدى غالبيّة التجار من اللحم الحيّ ما يقاومون به، هذا فضلاً عن الأعباء المتراكمة المؤجلة التي تحتاج لمعالجة فوريّة من الدولة، علماً أن جمعيّة تجار طرابلس وكل من جمعيات تجار عكار وزغرتا والبترون أصدروا بياناً مشتركاً طالبنا فيه الدولة سماع ناقوس الخطر الذي يداهم مصيرنا، وبضرورة الإستجابة لمطالبنا المحقة التالية:

أولا: إعفاء المواطنين من الضرائب المستحقة عن العام 2020، ومنها فواتير الكهرباء والهاتف والمياه، وضريبة الدخل، ورسوم البلديّة، والميكانيك، والضريبة على القيمة المضافة.

ثانيا: تسويات من 50 – 70% تشمل كافة الضرائب المستحقة حتى 31 كانون الأول 2019.

ثالثا: إلغاء كافة غرامات التأخير بنسبة 100%.

رابعا: إعفاء مستحقات مؤسّسة الضمان الإجتماعيّ لدى الشركات كافة لستة أشهر، والسماح لها بقيد الموظفين الجدد مجانا للسنتين المقبلتين.

خامسا: تمديد فترة سماح سداد / مهل أقساط المؤسّسات الشهريّة للمصارف لفترة لا تقل عن 6 اشهر.

سادسا: تطبيق اللامركزيّة الإداريّة وهي المدخل الرئيس للتنمية.

“نسأل الله تعالى أن يحمي لبنان واللبنانيّين من كل سوء”.

بقلم: غسَّان عبدالرحمَن الحسامي

أمين عام جمعيّة تجار طرابلس                                    

رئيس رابطة الجامعيّين في الشمال

ghassan hosami

Post Author: SafirAlChamal