لا يزال أبو حسين يستذكر بداياته في مهنة تصليح ″بوابير الكاز″، ولو شاء القدر أن يعود به الزمن (60 عاما) إلى الوراء لاختار تلك المهنة العـــزيزة على قلبه، كما يقول، ″رغم أنها لم تجلب لي إلا الفـــقر، ولكنها أغنتني بمحبة الناس″.
في دكانه القديم المتواضع في زقاق ″المرستان″ (وهي تعني المصح العقلي في زمن العثمانيين) في باب الحديد، يجلس أبو حسين (محمد حسين غازي – 82 عاماً) متباهيــــا بأنه من أبناء المدينة ومن محبي تاريخها، وحضارتها، وتراثها، وحتى زعاماتها الذين تملأ صورهم زوايا دكانـــه، الذي لا يكاد يتسع لكرسيه وللمنصة الحديديـة لتصليح البوابير وبعض المعدات الخاصة بهذه المهـــنة التراثية.
علاقة حميمة تربط أبو حسين بمهنة تصليح البوابير التي شارفت على الانقراض بشكل كامل، في ظل الوسائل البديلة المتطورة، ونظرا لانقطاع قطع الغيار والإكسسوار، التي كانت تأتي من سوريا، وذلك بسبب الأحداث الأمنية.
لا يخفي ابو حسين امتعاضه من ″قلة الشغل″ التي دفعته للاعتماد على تصليح الأراكيل في أوقات فراغه، فـ ″الحالة صعبة، وأنا بطبيعة الحال ما فيني أقعد بلا شغل، ولا فيني انقطع يوم عن إني شوف الأحباب والأصحاب والحديث معهم″.
يروي ابو حسين كيف بدأ حياته المهنية، عندما كان شابا يبحث عن عمل، وكيف استطاع أن ينسج علاقات مع شريحة كبيرة من أبناء المدينة، فـ″مصلح البوابير كان حاجة ماسة في ذاك الزمن الجميل، والكل كان بدو يتقرب منو حتى يخلصلو شغلو بسرعة″.
ويقول: ″نحنا بطرابلس بقينا 3 معلمين، وانا الوحيد الذي اعمل، وإذا متنا يمكن تموت معنا المهنة، لأنو أولادنا ما راح يشتغلو بهيدي المهنة، وما حدا بيحب يتعلمها، لأنو ما عندها مستقبل وبعتقد إنها انتهت″.
ويشير أبو حسين الى أنه ″في بداية السبعينيات، بدأ معلمو المهنة يشعرون أن الشغل يتراجـــع شيـــئا فشيئا، مع استغناء أبناء المدينة عــن البوابـــير لمصلحـــة أفــران الغاز”، لافتا النظر إلى أن “المهنة استــمرت بفضــل الفقــراء والدراويش غير القادرين على شـراء الأفــران الجديدة″.
ويؤكد أبو حسين أنه بدأ يلمس التراجع الحقيقي للمهنة في منتصف الثمانينيات، بعدما أصبحت الأفران الحديثة حاجة ماسة حتى للعائلات الفقيرة، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الأصعب اليوم، حيث غدت ″بوابير الكاز″ من الأثريات التي يسعى المواطنون لعرضها في المنازل للزينة بدل استخدامها، ليقتصر الاستخدام اليوم، على عدد ضئيل جداً، ″لذلك فإنني بالكاد أقوم بتصليح بابور أو اثنين في الشهر، والأسوأ من ذلك هو وجود من يريد تصليح بابوره بالدين″.
ويؤكد أبو حسين أن كل شيء على البابور أجمل، فـ ″أنا ما زلت أحتفظ به في بيتي، واستخدمه في عمل القهوة والشاي، وعندي أصحاب كمان بيحبو يستخدموه بس ما فيهم لأنو نسوانهم بينزعجو من صوتو ومن ريحة الكاز″.
ويمتلك أبو حسين معرفة كاملة بكل أنواع البوابير، الأميركية واليونانية والرومانية والسورية، ″ولكل واحد منهم ميزة، بس كل إنسان كان يشتري على حسب استطاعته، ويلي كان بدو يرتاح من صوت البابور العالي كان يشتري المستورد من الخارج ويقال له “البابور الأخرس″.
وما يزعج أبو حسين اليوم أنه خسر أصدقاء، كانوا يترددون على محله من كل المناطق، من دون أن يعلم ما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا، وهو يخــشى التنقل كثيراً وترك محله، خشية أن يأتي من يريد إصـــلاح بابـــوره ولا يجده وربما كان مضطراً عليه. ويســـتدرك قائلاً ″هيك كنا نفكر زمان، لأن البابور كان حاجة أساسية في كل المنازل″.