الدكتورة هلا رشيد أمون في حوار فكري عن الفلسفة في معرض الكتاب …

في اليوم الثامن من فعاليات معرض الكتاب السنوي، جرت محاورة فكرية وفلسفية في قاعة المؤتمرات في الرابطة الثقافية في طرابلس، نظَّمتها جامعة AUT ، حملت عنوان “أهمية دراسة الفلسفة في تكوين العقل الانساني”، استضافت البروفيسور هلا رشيد أمون، أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وقام بمحاورتها مدير الجامعة الدكتور باسم بخاش.

وقد أجابت د. أمون على جملة من العناوين والأسئلة التي طرحها د. بخاش أبرزها : ما معنى الفلسفة؟ ولماذا هي ضرورية لكل باحثٍ ومتخصصٍ في أيِّ ميدانٍ أو حقل من الحقول المعرفية والعلمية؟ وهل غياب الفلسفة هو المسؤول عمّا يسود المجتمعات من خشيةٍ من النقد وإعمالٍ للعقل، ومن تفاهةٍ وانخفاضٍ في مستوى الذكاء العام، ولاسيما بعد الانفجار المعلوماتي والتقني؟ وكيف تطور معنى الفلسفة وتعددت وظائفها وأدوارها عبر العصور ؟ وما هي ابرز مفاهيم ومرتكزات “الحداثة “و “ما بعد الحداثة”؟

ومما قالته د. أمون إنَّ “الفلسفة” هي صناعة السؤال واتقان حِرفة الاستفهام، وهي محاولة يُراد بها فهم الوجود ومعرفة أنفسنا، ومكاننا من الوجود . والغاية الاساسية من دراستها هي ادراك الحقائق كما هي في واقعها بالبراهين العقلية والمنطقية، لا بالظنّ والنقل والتقليد . فالفلسفة هي سعيٌ لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحثٌ دائم عن إجاباتٍ تتعلق بالقلق الوجودي وإشكالياتِ العصر وأزماته، وهي نشأت في الاساس من التعيينات التاريخيّة المُتعلّقة بالكينونة البشريّة، ومن رحِم البحث والتفكُّر بمشكلات الحياة اليوميّة للناس.

وعن المزايا الفكرية التي تضيفها دراسة الفلسفة الى عقول الدارسين والمتعلمين من كافة الاختصاصات، قالت د. أمون إنَّ دراسة الفلسفة تعزز الحسّ النقدي والتاريخي، وتشجع على تبنِّي منهج البحث الدائم ومراجعة الافكار والشكّ في المنظومة الفكرية والمعتقدات والبديهيات والحقائق المقرَّرة سلفاً التي يؤمن بها الانسان، دون أن يناقشها أو يعرضها على النقد والتمحيص، ولو مرة واحدة في حياته .
بل إن “العلم” نفسه بحاجة مُستمرّة إلى فحصٍ فلسفيّ، لأنّ العلوم تعتمد على منهج ليس من نتاجَها، ومبادئ وفرضيات غير متعلقة بها. وهنا يأتي دور الفلسفة في ترشيد العلوم لغاياتٍ اجتماعيّة تعود على المجتمع بالنّفع، وفي ربط العلم بالأخلاق، وإخضاع الاكتشافات العلميّة للقِيَم الإنسانيّة، لأنّ غاية العلم هي التوصُّل إلى نتائج واكتشافات، ولا يهمّه إن كانت تعود على المجتمع بالنفع أو بالضّرر.

أما عن صفات الفيلسوف التي تميِّزه عن غيره، فقد قالت د. أمون إنَّ “الفيلسوف” هو العقل المفكِّر الذي يسعى الى صوغ خطابٍ مَعرفي موضوعي كُلِّي مهموم بالإنسان وكرامته وحريّته وتقدّمه. وهو لا يتوقف عن مقاوِمة كلّ أشكال الاستبداد والخرافة والاسطورة . فهو يناهض الدكتاتورية، والأصوليّة التي تنتهج العنف، والعصبيّات الدينية والقبلية، وانتهاك حقوق الانسان وكرامته وحريته . وأضافت أن “الشجاعة الفكريّة”، و “الحياد الفكري” هما ما يُلزم الفيلسوف بإخضاع كلّ الأفكار السائدة والمألوفة لمحكّ النقد والعقل، ولذلك نجد الجمهور الغارق في اليقينيّات، يبني علاقة عدائيّة مع الفيلسوف، ويطلق أحكاماً مُسبقة وجاهزة وجائرة على الفلسفة، مصدرها الموروث الديني والفقهي الذي حذَّر من مخاطر الإقبال على دراسة الفلسفة، وصنَّفها من ضمن الدراسات المُحرَّمة .

أما بالنسبة الى الجدوى والفائدة من دراسة الفلسفة في عالمنا العربي، فقد قالت د. هلا : إنَّ الفلسفة أَصبحت ضرورة مُلحّة بالنسبة إلى الاجتماع العربي، لأن العديد من دُوله (سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان ..) تشهد تفشّي حالة العنف والاقتتال، واستشراء الظلم والاستبداد . وفي هذه المناخات تبرز ضرورة الفلسفة بوصفها جهداً معرفياً للوصول إلى حقيقة الأمور وجوهرها وكُلّيَّتها، والى تنقية المجتمع من الكثير من المفاهيم والأفكار التي أعاقت تقدمه ونهضته.

وعن معنى الحداثة ونتائج التطور التكنولوجي الهائل على المجتمعات، فقد شرحت د. أمون بأن الحداثة هي انحياز للتجديد، ونقد للموروث، واعادة التفكير في شروط بناء المعرفة، وليست مجرد منتجات ومخترعات ونماذج جاهزة للاستيراد والتطبيق. إنها قطيعة منهجية ومعرفية تَجاوَز الفكرُ الفلسفيُّ بواسطتها، هيمنة الميتافيزيقا والفكر اللاهوتي، ليؤكد حرية الانسان وارادته ومركزيته في الكون، وغيرها من المفاهيم التي فكَّكت مرتكزات الاستبداد السياسي والديني وهيمنة الفكر الغيبي في المجتمعات الغربية. وها هو العالم الغربي يتجاوز “الحداثة”، ويقوم بنقدها ومحاكمتها، ويواجه تحدياتٍ وقضايا وأسئلةً جديدة في مرحلة جديدة من تطوره، هي مرحلة “ما بعد الحداثة” التي تأسّست على أنقاض كل اليوتوبيات الجميلة أو الأيديولوجيات أو السرديات الكبرى، أو الميتا – حكايات التي قامت عليها الحقبة الأنوراية، مثل العقل والعدالة والرفاهية والديمقراطية والسعادة الانسانية والحتمية التاريخية للتقدم، التي ثَبُت بعد اندلاع حربين عالميتين دمويتين في اوروبا، أنها مجرد اوهام ووعود فارغة. وبعبارة أخرى، إن “ما بعد الحداثة” هي الحداثة تفكر فيها في نفسها، وتضع نفسها موضع الفحص النقدي، وتعيد النظر في يقينياتها وإشكالياتها.
وأضافت د. هلا أنَّ أبرز ملامح مرحلة “ما بعد الحداثة” هي انهيار الفكر الشمولي والفكر اليقيني و”الايديولوجيات” التي فقدت مصداقيتها وشرعيتها؛ وفقدان الثقة بالعقل الذي كان يُعدّ مصدر الصدق والتقدم، وأساس المعرفة المنهجية؛ وحلول نزعة “التشكيك” مكان الحقيقة العقلية؛ وشيوع النزعة “العدميَّة” التي تعني نقد الذات والقيم المتوارثة والمطلقة؛ وتفكيك النصوص وتحطيم الأنساق المغلقة؛ وتمجيد اللامعنى واللاتحديد والتعددية والنسبية، في مقابل مفهوم الهُويّة واليقينية والوثوقية؛ وزيادة الاعتماد على “التكنولوجيا” التي تتوافق وثقافة المجتمع الرأسمالي ما بعد الصناعي، وسيطرة النزعة الاستهلاكية . ولا شكّ في ان العقل الغربي الحيوي سوف يتجاوز هذه المرحلة أيضاً، إذا ثبُت لديه فشلها أو عُقم مفاهيمها، أو أضرارها على الانسان والمجتمع.

أما عن علاقة العالم العربي بالحداثة وما بعدها، فقد أوضحت د. أمون أن العالم العربي ما زال يعيش مرحلة ما قبل الحداثة، لأن العرب لم يكونوا جزءاً من الفلسفة التنويرية والإرث المفاهيمي الحداثي العقلاني الغربي الذي تمَّ تشكيله وتطويره خلال مئات السنين، لذلك فالعالم العربي مجرد مستهلكٍ لمنتجات الحداثة، لا مبدع لها ، ولا مساهم في انتاجها . وحداثتنا حداثة مستعارة وسطحية وهشة وغير متجذرة في البنية الثقافية، وهي محاكاة قشرية للمدنية الغربية.

وفي نهاية الندوة، ردّت الدكتورة هلا أمون على أسئلة الحاضرين، وقامت بتقديم كتابين من كُتبها هديةً لهم .


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal