حياد لبنان.. خيار استراتيجي بين نقيضين (9)… صبحي عبدالوهاب

تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح ″الحياد″ أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة التاسعة..

 

 

في ما يتعدى اطروحة البطريرك الراعي حول “الحياد”  فإن  الدراسات السياسية الإستراتيجية تشير الى ان “الدولة الحيادية” تكتسب الصفة القانونية حينما يمتنع البلد عن المشاركة في أي من التحالفات الدولية، ويقف على مسافة واحدة من كل الدول المتصارعة سياسيا او المتحاربة عسكريا او حتى المتقاضية أمام المحاكم الدولية، مع ضرورة اعتراف الدول الأخرى بنزاهة وحيادية هذا البلد. وقد أكد القانون الدولي على أن حقوق البلدان الحيادية تتضمن عدم استخدام أو احتلال أراضيها من قبل الدول المتصارعة، والأهم الإبقاء على العلاقات الديبلوماسية مع كل الدول سواء كانت محايدة او منحازة.

ولقد توسع الباحث الإستراتيجي الدكتور نبيل خليفة في هذا الموضوع حينما تواصلت  “الانباء” بتاريخ 19/8/2020 معه فلفت الى وجود فارق كبير بين مفهومي “الحياد” و”التحييد”، فحياد الدولة يتم بناء على رغبة شعبها في الوقوف على مسافة واحدة من كل التحالفات والصراعات الدولية أو المحيطة بها ونموذجها دولة سويسرا، بينما تحييد الدولة يتم بناء على رغبة الأسرة الدولية ممثلة بمجلس الأمن الذي يفرض نظام الحياد الدولي الدائم عليها ونموذجها النمسا، ليصبح أمن هذه الدولة من مسؤولية الأمم المتحدة وتصبح خارج الأحلاف العسكرية والتجاذبات الإقليمية والدولية.

وليس من السهل تحقيق الحياد في لبنان نظراً لوجود انقسامات عامودية بين جهات ترغب فيه وجهات ترفضه، ففي لبنان أحزاب وحركات ومنظمات مرتبطة عضويا وإيديولوجيا وسياسيا ودينيا وماديا بقوى ودول خارجية، وهي بالتالي لن تقبل بأن يكون لبنان دولة محايدة، ومن الطبيعي ان تواجه بشراسة هذا الطرح، فيبقى الحل الوحيد تحييد لبنان بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع بما يمنع كلا من اسرائيل وسورية وإيران وأي دولة اخرى لها اطماع معينة من الاعتداء عليه او العبث باستقراره الامني والسياسي، لكن مثل هذا القرار يستوجب تقديم المبررات اللازمة التي تقنع الأسرة الدولية بضرورة اتخاذه، فالشعب النمساوي على سبيل المثال كان منقسما بين مؤيد لحلف وارسو ومؤيد لحلف شمال الاطلسي، فتدخلت الاسرة الدولية من خلال مجلس الامن لتحييد النمسا ومنع الصدام بين الحلفين على اراضيها، وهو النموذج الذي ينطبق على لبنان المنقسم بين مؤيد للشرق ومؤيد للغرب، الأمر الذي يبرر وبقوة المطالبة بتحييد هذا البلد «الحاجز» بين اسرائيل وسورية عن الخلافات والصراعات الاقليمية والدولية.

ولبنان مصنف دوليا بالدولة الحاجز (Etat Tampon) بين سورية وإسرائيل اللتين تعتبران لبنان خطأ جغرافيا وتاريخيا وليس حقيقة جغرافية وتاريخية، لأن قيام دولة لبنان ينقض فكرة «اسرائيل من النيل الى الفرات» وفكرة «سورية الكبرى» وهو ما يعطي كلا من الدولتين مبررات الهيمنة عليه وإضعافه تمهيدا لإلغائه وضمه اليها سياسيا وعسكريا واجتماعيا وثقافيا.

ولذلك قال ميشال شيحا: «لبنان بلد يعيش على حدود الخطر الدائم»، فسورية ترفض أن ترسم معظم حدودها مع لبنان بسبب عدم اعترافها به دولة نهائية سيدة حرة ومستقلة، واسرائيل تتلاعب بحدوده البرية المرسمة مع فلسطين منذ العام 1923، كما تسعى لفرض حدود بحرية معه بما يسمح لها استثمار مخزونه البحري من النفط والغاز.

وميزات البلد المحايد او المحيّد يضيف خليفة انه صغير جغرافيا وسريع العطب (Vulnerable)، وغالبا ما تكون طبيعته الجغرافية جبلية وشعبه متنوع دينيا ومذهبيا وثقافيا، كما هو حال الدولة اللبنانية، حيث يجتمع فيه اكبر عدد من الاقليات في العالم، الامر الذي يسهل على الدول المجاورة الطامعة فيه استغلال سرعته بالعطب وتنوعه الديني والثقافي والاتني بهدف زرع الخلافات بين شعبه على قاعدة فرق تسد، ناهيك عن ان موقع لبنان استراتيجي وقد صنفه رئيس وزراء إيطاليا السابق رومانو برودي بـ «مستجمع استراتيجيات العالم» بمعنى ان كل دولة في العالم شرقية كانت ام غربية تشعر بأن لها مصلحة فيه، ومن هنا انطلق الصراع السياسي والايديولوجي فيه.

إنّ نشوء هذه الدول الحاجزة، وفي بعض الأحيان إنشاؤها (بتخطيط بريطاني) كان الهدف منه أمرين:

1- وضع حاجز فاصل بين القوى المتواجهة (أمبراطوريات أو دولاً).

2-  منع الاحتكام المباشر في ما بينها وبالتالي تحقيق الأمن على حدودها.

ومع الزمن، بدأت هذه الدول الحاجزة تثبت أهميّتها الدوليّة من أنّها عامل استقرار ونموّ في الحياة الدولية وعامل مساعد على تحقيق السلام، وهذا هو معنى التوافق بين حلف الأطلسي وحلف وارسو على تحييد (neutralisation) دولة النمسا لمنع الاحتكاك بين الاتحاد السوفياتي والغرب.

وهكذا تحوّل حياد الدولة – الحاجز من وسيلة إلى حاجة فإلى حلّ مع الإشارة إلى أمرين:

الأول: ان حياد الدولة يتمّ بناءً لرغبة شعبها ونموذجها سويسرا.

الثاني: إن تحييد الدولة يتمّ بناءً لرغبة الأسرة الدوليّة ممثّلةً بمجلس الأمن الدولي الذي يفرض نظام الحياد الدولي الدائم عليها ونموذجها النمسا بعد الحرب العالميّة الثانية، وبهذا المعنى يصبح أمن هذه الدولة من مسؤوليّة الأمم المتحدة وتصبح خارج الأحلاف العسكريّة والتجاذبات الإقليميّة !

ويرى خليفة ان لبنان ما بين  “الحياد و”التحييد” لن يكون هناك إجماع شعبي على طلب حياد لبنان نظراً لوجود جهات وأحزاب وحركات ومنظّمات مرتبطة بقوى ودول خارجيّة إيديولوجيّاً وسياسيّاً ودينيّا ومادياً. وهي لن تقبل بحياد لبنان وستواجه هذا الطرح.

ويبقى الأمر الآخر، أي الحل الوحيد للبنان وهو تحييد لبنان الدولي بقرار من الأسرة الدولية وبسعي ودعم من الجامعة العربيّة. ومثل هذا الأمر يقتضي الاقتناع بهذا الحل أولاً، والالتزام به ثانياً، وبذل مجهودات كبرى لإقناع الأسرة الدوليّة بضرورة اتخاذ مثل هذا القرار ثالثاً. فما هي المبرّرات التي يقدّمها لبنان للأسرة الدوليّة لإقناعها بتحييده باعتبار هذا الخيار هو الحلّ الوحيد والنهائي للبنان النهائيّ؟

1- اذا بقي لبنان على ما هو عليه فسيكون فريسةً سهلةً لجيرانه ونقطة تفجير للمنطقة!

2- إن وضعه تحت المظلة الدوليّة هو الضامن الوحيد لاستقراره وازدهاره واستمراره خدمةً له وللإنسانيّة جمعاء.

3- إنه بلد جدير وربّما الأكثر جدارة بهذه الضمانة الدوليّة والرعاية الأمميّة باعتباره نقطة الحرب والسلم في الشرق الأدنى.

4- وهو البلد الذي قدّم، ولا يزال يقدّم، الإسهامات الكبرى في مسار الحضارات والثقافات والأديان انطلاقاً من فلسفة الألفباء الفينيقيّة في بيبلوس إذ ليس المهم أن نفخر بأن الألفباء نشأت في بيبلوس، بل في تفسير وتبرير أسباب نشوئها هناك والروحيّة الفنيّة التي قُدّمت بها إلى العالم فصارت القاعدة الأولى التي قامت عليها معظم حضارات الشعوب.

5- كون لبنان موقعاً مركزياً في المنطقة التي وصفها فريدريتش راتزل بأنها ” المنطقة التي تميّزت بقيم جيو- سياسيّة ثابتة ومستمرّة عبر التاريخ”.

6- كون وطن الأرز ضرورة حضارية للإنسانيّة جمعاء ومكاناً لالتقاء الأديان وحوار الحضارات والشعوب.. إنّه “البلد-الرسالة”.

في الخلاصة، هناك حلّ وحيد ونهائي وموضوعي للاحتفاظ بلبنان النهائي: إنّه حلّ التحييد الدولي الدائم الذي يعصمه من أن يبقى مهدّداً في أمنه وكيانه ومصالحه وشعبه ومصيره. ومثل هذا الحلّ ليس اجتهاداً شخصيّاً أو حزبياً أو طائفياً (مارونياً) أو فئوياً أو وجهة نظر لجهة معيّنة، كائناً من كانت هذه الجهة. وإنّه خلاصة لعلم الجغرافيا السياسية ومعيار تصنيف الدول في العالم وتعيين الحلول المناسبة لها انطلاقاً من واقعها الجيو-سياسي. لذا، فإن المهمة الأساسية للمسؤولين اللبنانيين، لاسيما الموارنة، كونهم من أقدم دعاة وبناة وحماة الكيانيّة اللبنانيّة، أن يعملوا مع الجميع لتحقيق هذا الهدف الضامن لاستمرار لبنان كما رأوه وعملوا له واستشهدوا من أجله!.

أجل، يجب أن تتوقّف عندنا ولدى الموارنة خاصة، الثرثرة السياسيّة كي نواجه جدّية التاريخ!!


مواضيع ذات صلة:


Post Author: SafirAlChamal