رمضان طرابلس: روحانيات ونفحات إيمانية.. وعودة الى الزمن الجميل

خاص ـ سفير الشمال

لرمضان نكهة خاصة في طرابلس مهما إشتدت الأزمات والصعوبات وحالت جائحة كورونا دون التواصل بين الصائمين، حيث أن بركة الشهر الفضيل تستقوي على كل شيء وتعم على الجميع.

منذ الليلة الأولى من الشهر الكريم يصدح صوت المسحراتي مخترقا سكون ليالي رمضان بالمدائح النبوية والابتهالات على وقع قرع طبلته لايقاظ المواطنين على السحور طيلة ليالي الشهر الفضيل، قبل أن يتحول بعد العشر الأوائل الى “الوداع” بهدف توديع الشهر عبر فرق تجول على المنازل يقرع أفرادها الطبول والصنوج على وقع الابتهالات الدينية والمدائح النبوية.

هو مشهد يتكرر في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك في طرابلس التي ما تزال دون كثير من المدن اللبنانية والعربية تحرص على أن تعيش تفاصيل الشهر الفضيل بطقوسه الدينية وعاداته وتقاليده وتراثه وروحانياته ونفحاته الايمانية، حيث تزدان مساجد المدينة بالانارة الملونة التي تظهر جمالية عمارتها وعقودها الحجرية الأثرية، ويتخصص كل مسجد في طرابلس بنشاط ديني رمضاني يحتضنه منذ عهود طويلة وما يزال يحافظ عليه.

الأثر الشريف

الى الجامع المنصوري الكبير وهو أكبر مساجد طرابلس وأقدمها يتقاطر المسلمون في يوم الجمعة الأخير من رمضان، من طرابلس والمناطق اللبنانية والدول المجاورة للتبرك بالأثر الشريف وهو عبارة عن شعرة من لحية الرسول محمد، أهداها السلطان عبد الحميد الثاني الى المدينة لمناسبة إعادة تأهيل مسجد التفاحي في الزاهرية، والذي أطلق عليه في ما بعد إسم “الحميدي” تيمنا باسم السلطان الذي أرسل الأثر الشريف على متن فرقاطة عسكرية الى المدينة التي عمت فيها الاحتفالات وأقيمت فيها الموالد، لكن علماء ووجهاء المدينة خافوا على الأثر الشريف من السرقة لأن الجامع الحميدي كان خارج أسوار المدينة، فارتأوا أن يضعوه في الجامع المنصوري الكبير حيث يصلي الوالي وأعيان ووجهاء طرابلس، فتم تخصيص غرفة جانبيه له، عرفت باسم غرفة الأثر الشريف، ويقرأ فيها القرآن بشكل مستمر ولا تزال حتى يومنا هذا، حيث يخرج مفتي طرابلس بالتعاون مع عدد من المشايخ في كل عام عند صلاة فجر وعصر يوم الجمعة الأخير من رمضان الأثر ويتبرك به المؤمنون على وقع الابتهالات والمدائح التي يقدمها المنشدون، لكن منذ رمضان الفائت، يتم تنظيم هذا الأمر بشكل أكبر خوفا من جائحة كورونا حيث يتم إرتداء الكمامات وإعتماد التباعد الاجتماعي.

ختم البخاري

وفي جامع الأمير سيف الدين طينال (وهو ثاني مساجد المدينة من الناحية التاريخية والأثرية) يجتمع أبناء طرابلس في حلقة ذكر إبتهاجا بختم صحيح البخاري الذي يقرأه المؤمنون إعتبارا من منتصف شهر رجب، ويختتم في اليوم الجمعة الأخير من رمضان، حيث تتلى السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وأركان الاسلام، وتتنافس خلاله فرق الانشاد الطرابلسية على تقديم أجمل وأبهى المدائح النبوية، وتنفرد طرابلس في إحياء هذه الشعيرة بين كل المدن العربية، وكذلك أدى جائحة كورونا الى الحد من المشاركة فيه.

ختم القرآن

وفي جامع القرطاوية الأثري المجاور للجامع المنصوري الكبير، يقرأ المصلون في كل ليلة جزء من القرآن الكريم في 20 ركعة من التراويح التي سمحت دار الفتوى بإقامتها شرط الالتزام بشروط السلامة العامة، وفي الليلة الأخيرة يحتفل الجميع بختم القرآن حيث تقام حلقة ذكر بالمناسبة، وتخرج بعدها النوبات الصوفية وتجول في الشوارع إبتهاجا بحلول عيد الفطر السعيد، وهي كانت خرجت قبل أيام إحتفالا باستقبال شهر الخير والبركات.

وتتناوب سائر مساجد طرابلس يوميا خلال الشهر الفضيل عقب صلاة التراويح على إقامة الموالد، وحلقات تجويد القرآن والتي تستمر حتى صلاة الفجر، إضافة الى إحياء شعيرة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.

مدفع رمضان

ومن العادات الرمضانية التي ما تزال طرابلس تحافظ عليها، إطلاق مدفع رمضان عند الافطار وعند السحور وعند الامساك وعند ثبوت رؤية هلال عيد الفطر السعيد، وهذا المدفع لا يزال موجودا عند إحدى نوافذ القلعة الأثرية منذ العهد العثماني، وهو بقي يعمل حتى عقود ماضية، لكنه أحيل الى التقاعد ليبقى شاهدا على عادات المدينة، ويستعاض عنه اليوم بمدفع يشرف الجيش اللبناني على إطلاق قذائف خلبية منه من محلة الهيكلية تدوي صداها في كل الأرجاء..

يوميات رمضانية

أما نهار رمضان فتكثر فيه المشاهد التي تحرص المدينة عليها، حفاظا على تراثها الجميل الذي يعطي الشهر الفضيل نكهة مميزة تنفرد طرابلس بها..

منذ الصباح تنشغل المناطق الشعبية في تحضير العصائر من الخرنوب والسوس والليمونادة، وقمر الدين، والتوت، والتي تعرض للبيع في أماكن مختلفة خلال فترات بعد الظهر، إضافة الى صناعة الحلويات التي تنشط صناعتها بشهر رمضان مثل كربوج حلب، ورد الشام، المهلبية، والعوامة وأصابع زيب والقطايب والمشبك، والتي تعرض في الشوارع وعلى البسطات التي تغض بلدية طرابلس الطرف عنها وعن مخالفاتها خلال الشهر الفضيل إفساحا في المجال أمام أبناء المدينة لتأمين لقمة عيشهم، كما تنتشر بسطات بيع وتغيب سائر المستلزمات بفعل الغلاء الفاحش الذي لحق بها، لكن تبقى بركة الشهر وعطاءات الخيرين أقوى وأكبر وأهم كونها ترتبط  بالتكافل والتضامن الذي لطالما إشتهرت فيه طرابلس.

يقول الصحافي الزميل عبد القادر الأسمر في كتابه “رمضان في طرابلس ذكريات ومشاهد”: “إن رمضان في طرابلس ليس مجرد صوم لثلاثين يوما فحسب، وإنما هو حالة جديدة بكل مستوياتها طوال 24 ساعة في اليوم، ولعل مدينة طرابلس هي إحدى أبرز المدن العربية والاسلامية التي تعيش رمضان في نقلة نوعية تتجدد معالمها عاما إثر عام، مع الحفاظ على الموروثات والاستمساك بمقوماتها والتشبث بمقاصد هذا الشهر الكريم.. إنه لحدث عظيم يترقبه الطرابلسيون بعد غياب أحد عشر شهرا، قلما أن ينجح أي إنقلاب أو نظام جديد مهما كانت مميزاته في أن يلقى القبول الحسن كما يفعله رمضان”.  

تنشر ″سفير الشمال″ خلال شهر رمضان المبارك عددا من العادات الرمضانية سواء التي إندثرت أو التي ما تزال قائمة وذلك من خلال الاعتماد على أرشيف الصحافي الزميل عبدالقادر الأسمر الذي يُسجل له أنه من أوائل الذين بحثوا في كل تلك العادات والتقاليد لتبقى نموذجا للأجيال المقبلة.

  


مواضيع ذات صلة:


Post Author: SafirAlChamal