حبيب فارس يروي لنا الـ 58.. تحديات أمام مصائر جيل شاب في ″الثائرون″… جان رطل

تحتار كيف تختار الكلمات كمفتاح لقراءة، ولو متأخرة، لما قدمه ″حبيب فارس″ في روايته المؤلفة بجزئيين والتي وصلني منها الجزء الثاني بعنوان ″الثائرون″ الصادرة في شباط 2013 عن دار الفارابي وهي تمثل احد أقسام العمل الروائي الكبير ″ملح الأرض″ كعنوان لا يخفى على أحد كونه مستلا من لغة الإنجيل.

اللافت في هذه الرواية ليس موضوعها ولا المضمون المشتغل على التوازي بين وثائقية واضحة المعالم بكونها تتحدث عن ما يمكن اعتباره سيرة جيل لبناني ينتمي الى أصول متنوعة من كل النواحي الاجتماعية والطبقية ومن المناطق الجغرافية المتباعدة وحركته خلال عقد من الزمن أو يزيد، ابتدأ من أحداث 1958 ووصولا الى الانتخابات التي أتت بالرئيس سليمان فرنجية الى سدة الحكم، وما يفرضه مما تزامن في هذه الحقبة من أحداث وقلاقل ومجازر ومواجهات عسكرية وتظاهرات ونهوض لأحزاب اليسار وللمقاومة الفدائية الفلسطينية المسلحة وختام تلك الحقبة كان على وقع أحداث أيلول الأسود وموت جمال عبد الناصر بعيد ابرام اتفاقية القاهرة.

“الثائرون” كرواية تجري على هذه الخلفية من الأحداث السياسية العامة غير انها ليست كقصة عن سياسيين ونشاطاتهم وصراعاتهم السياسية بمعنى أنه كيف ظهر في الرواية وكيف عايشت الشخصيات السياسية وتلك الأحداث انما وهي تغوص في مرويات لمجموعة من التلاميذ في ثانويات، وكيف بالتالي تطور تدرجهم العلمي الى طلاب جامعات، ومن كان حولهم من معارف وعائلات وفي إطار أي حيز جغرافي تنقلوا بين مدينة طرابلس وساحاتها وشوارعها وعكار وبعضا من ضياعه وزغرتا ومزيارة ومن ثم بيروت بمناطق فيها وصعودا الى برمانا وبيت مرى. واعتبار ان هذه الأماكن حاضرة هي الأخرى لتخبر قصص رجال ونساء من لحم ودم وأحلام وخيبات ومصائر. وكل هذا  في ظل نظام إقطاعي كان سائدا لسنين، وإيراد حكاية لافته منها  تصوير مستوى التعامل مع المرأة وتحويلها ولو في سن المراهقة الى موضوع لذة جسدية عابرة ينتج عنها مولودة بنت فتزوج المنتهكة وتغلق المغامرة على اختتام للعلاقة العابرة خارج الإطار الزوجية، وما يظهر منها وبالاستناد لوقائعها، مجموعة من التعاطي القيمي، خلال ذلك مما كان واقعا معاشا مسكوتا عن آفاته ورزاياه.

يمتاز هذا العمل الروائي بكونه يستعيد ظروف قلاقل، أو ثورة الـ 58، بما يصوره من أحداث ومشاكل ومنغصات أصابت الحياة اليومية من التنقل بين المناطق وشيوع النزاعات السياسية التي أصبح اللبناني معتادا علها في حاضرنا، وقادرا على توزيع الاصطفاف الذي يحدث للأحزاب السياسية فيها، ولو ان النزاع ايامها لم يطول سوى لأشهر قليلة الأمر البعيد عما حصل غداة ال75 وإن كانت أحداث ما جرى من جذر طائفي واحد وارتباطات خارجية لمذهبيات أو أحلاف سياسية مختلفة غير انها مترابطة بتسلسلها وتشعباتها .

من الممكن القول ان سرديات “الثائرون” تشبك مع سير ذاتية متلاصقة هي من الأمور التي افرد لها الكاتب “فارس” تعريفات شخصية صدّر بها الرواية وكأنه، بإرجاعها لمن تخص وتسمية كل فرد منها وارد ذكره في الرواية الى اسمه الحقيقي،  يشير الى ان ما ستجري من حكايات هي منقولة عن الواقع المعاش الحقيقي لا مجال للخيال والإسقاطات الأدبية فيه، فهو يتحدث عن الحقيقة كما عاشها، موثقة، مستعادة بحذافيرها أو ملتقطة من ذاكرة فردية حينا او معطوفة على ذاكرة عامة تختصر تشابه الجماعات والعائلات وتطابق معاناتها على طول البلاد وعرضها.

فالراوي المعتمد يظهر وكأنه من بين الشخصيات لا ينكفئ الا ليترك مجالا للحوارات الكثيرة والأساسية لتبيان مسار الاحداث وهو يقدم سردية “نظيفة” تستعيد اسلوب الرومنسية بتناولها اسلوب القص، والمقصود هنا أيضا تغنيها بالمواقع الطبيعية والمناظر التي تطل على الأماكن والذهاب بذلك الى حد ادخال حاسة الشم فيما هو موصوف،  وهي سردية دائمة الاستشهاد بأبيات من الشعر متعددة المصادر  تتناسب والسياق المحدد المضافة اليه. كما انه من اللافت الإرجاع الى التواريخ والإحالة الى اليوم والسنة وكأن الحرص هو دائم لوضع الحدث واللحظة المروية في موقعها المناسب والمنتسب الى العوامل المحيطة. بحيث يقدم بهذا المستوى عملا روائيا نادرا ببسطه لجدارية من العلاقات الإنسانية الممتدة في الزمان والمكان، ففي الفصل الأول من الرواية، يجري خلف نتف من المشاهد المعاش منها خلال ثورة ال58، وهي ولقلة حضورها في الأعمال الأدبية المنشورة، تدخل فيما يمكن الإشارة اليه بالفريد والأصيل أدبيا ولحد علمي وأضلاعي فثمة حضور منها قليل التدبر والاستشهاد فهناك فقرة واحدة من اسطر قليلة كتبتها الروائية التشيلية “إيزابيل ألليندي” من ضمن روايتها “باولا” عن حادثة جرت في الـ 58 وقعت، تحت بيت السفير التشيلي وكان زوجا لامها، وشاهدتها كتتطور نزاع على متراس كان موقعه تحت بصرها في لبنان ذاك الزمان.

 كما ان للأديب “محمد عيتاني” بضع لمحات في إحدى مجموعاته القصصية. ولولا رواية المسرحي “شكيب خوري” الصادرة سنة 2000 بعنوان “تجاعيد الأحلام” والتي تدور حكاياتها عن تعقيدات مصاعب تحصل مع فريق مسرحي، على خلفية تلك الأحداث الثورة!، لما كان لنا ان نتعرف عن بعض من أجوائها من الناحية الأدبية والكتابة الفنية الروائية.

كما لا بد من ذكر رواية كتبها “سعيد تيزاني” حول الحقبة إياها تلك ذكرها وكتب عنها المتابع الصحافي لشؤون الثقافة الكاتب “عبد القادر الأسمر” وطبعا بقي مقاله المرجع الوحيد المتوافر عن تلك الرواية ولا من إمكانية لقراءتها ولا من يفتشون!

لم يكن ببالنا هذا الاستطراد لو لم يكن لهذه المرحلة التاريخية من غياب نسبي واضح وفاضح في الأعمال الأدبية بخلاف الحضور الجارف للحرب الأهلية المستمرة منذ الـ 75 وما تلاها بحيث بالإمكان ان نجد عشرات الروايات والأغنيات والمسلسلات والأفلام على انواعها ربما للفترة التي صرفتها من السنين حضورا ولحصيلتها المرتفعة من الخسائر والأحداث والحقب والتحولات التي جرت خلالها. غير ان “الثائرون” الجزء الثاني من ملح الأرض تقدم،على سوداوية الخلاصات المستنتجة من تراكم الأحداث ،وعلى المستوى الفردي لتطور مصائر شخصياتها، قراءة متفائلة لنهايات فرحة وأهازيج  أعراس لأكثر من ثلاثة أزواج يرتبطون باحتفاليه ختامية وان كانت الوقائع تشير الى بدايات تفسخ النسيج البلدي ومكوناته. فالأفكار الجديدة لنضال جيل الـ68 ستسمح بالارتباطات المختلطة بين الطوائف وإرهاصات الزواج المدني اصبحت على الأبواب حتى ولو لم يعد للبيوت أبوابها فيما منتظر من أحداث جسام تتحضر في الأفق! ومن بوادرها الهجوم الكبير على الطائرات للأسطول المدني وهي جاثمة على مدرجات المطار الوطني فيحيلها رماد أو ركام!

يسير بنا مؤلف “الثائرون” في مشواره عبر العقد من السنين ليعيد تكوين حكاية “سلمى” الفتاة الريفية المنتهكة والتي أصبحت جدة لسلمى الصغرى فنتابع ما ستؤول اليه حياتها وانتقالها للعيش في طرابلس مع الإبقاء على علاقتها المتقطعة بضيعتها لضرورات البحث عن عمل لأفراد العائلة وكما ستكون حال “رستم”  و”علي” وآخرين ممن سيتوزعون على أحزاب ومشارب سياسية في مرحلة ما قبل اندلاع الأحداث في الـ 75 . فهناك من هو كتائبي وآخر من الحزب السوري القومي الاجتماعي  الذي كان حليفا لرئيس الجمهورية “كميل شمعون” في حلفه مع بغداد وثالث تظهر على قناعاته انتسابه للناصرية مع انتشار المد الذي كان يمثله في حينه نهوض وسطوع نجم “جمال عبد الناصر” وكلهم طلاب في ثانوية حكومية، يأخذ مجاله الراوي في تحديد انتقالها وتتطور ابنيتها في مختلف احياء المدينة ،وصداقاتهم مع الشاب الزغرتاوي “سيمون” المقيم في طرابلس ايضا والذي سيشاركونه حضور فيلم “ذهب مع الريح” ويسهرون معه في “نادي الليدو الليلي” فتكون تلك السهرة وكأنها سهرة وداعه لأنه سيذهب صباحا الى “مزيارة” فيصبح واحدا من الذين سيقتلون في ذاك اليوم من حزيران المشؤوم،حيث تحصل المجزرة المعروفة باسم البلدة، فيبقى بذكراه ووجدان اصدقاؤه حين يكونون فيه مع الزملاء الطلاب يحضرون للامتحانات الرسمية.

من الشخصيات التي يتابعها من الجزء الأول من “ملح الأرض” وسيم وهيفا اللذان كانا يحبان بعضهما ولاستحالة زواجهما يسافر وسيم ويحصّل على دكتوراه بعد موت هيفا أثناء ولادتها لثمرة علاقة الحب تلك وطلق عليها اسم “بسمة” التي تحدت ببقائها كل الأعراف المتبعة كما تركت في وجدان الحبيب وسيم الحب الكبير الذي لم يستطع ان يتخطاه وان كان قد ساقته الأقدار ليتعرف بكثير من الفتيات غير انه كان يعتبر الوصول بتلك العلاقات الى خواتيمها خيانة لحبيبته التي دفعت حياتها ثمن حبهما الى ان اتت “نانسي” فبدلت بأحواله وفتح معها علاقة حب جعلها مرتبطة بالمصير الذي ستؤول اليه “بسمة” فيطمأن لأحوالها بعد ان تعرف عنه انه اباها الحقيقي وكل ما له علاقة بقصته مع والدتها فتفرح لما كانت تكنه له من مشاعر أبوية دائما. على هذا المنوال تنسج القصص الباقية “للكوبلات الأخرى” والمؤلفة من صبايا وشباب كانوا أصحابا واصدقاء على مدا سنوات الدراسة والسكن والعلاقات الإنسانية التي جمعتهم خلال النضال والتظاهرات والتعرض للقوى الأمنية والسجن والنجاحات والفشل خلال تلك السنوات من قلاقل ال58 الى بدايات سنوات السبعين حيث تختتم حكاياتهم بحفلات زفاف كلها غبطة على ابواب مرحلة اجتاحت البلد بالحروب الأهلية المتفرقة توقف عندها الراوي منهيا “الثائرون” فهل يحضر ” حبيب فارس ” لجزء ثالث من “ملح الأرض” يتابع فيها مصائر ناسه و ما تحصل لحيواتهم لاحقا أم ان الفصول تتوقف عند النهايات السعيدة وابقاء المهمة لأصحابها هذه المرة!   

            

Post Author: SafirAlChamal