رشيد درباس يدق ″ناقوس الحزن″ على صديقه أحمد كرامي

خصص الوزير السابق رشيد درباس ″ناقوس الأحد″ الذي يقرعه إسبوعيا عبر إذاعة ″صوت لبنان″ لرثاء صديق عمره النائب السابق أحمد كرامي، وجاء فيه:

ما كنت أتمنى لنفسي أن أصدر هذا الكم من الرثاء في هذا الكم  من الأصدقاء.

اليوم استميحكم عذراً، إذ أخصص هذه الحلقة لمن صعقتني وفاته الأحد الماضي، وما زلت أقلب الأمر بين مصدق ومكذب.

هو من مستمعي الناقوس الدائمين، ومن المعلقين عليه، وهو أيضاً من أسياد تركيب المقلة، لذلك تعمدت في الحلقة قبل الماضية أن أركب مقلته فاتحدث عن دورنا معاً في طاولة الحوار، وتوقعت منه رداً مقذعاً ولكنه هاتفني ضاحكاً: “وتقبل الأمر قبولاً حسناً” .

حتى يوم السبت الذي اسلم الروح في آخر هزيعه، لم أكن أخشى على حياة أحمد كرامي رغم اعتلال صحته، لأنه كان دائماً حاضرالذهن، ظريف القول، باذخ التعاطف، يتسقط أخبار أصحابه، يتحرش بهم، فيشيع أجواء من الفكاهة والحبور.

حدث أن تعرضت لحالتيّ إغماء خلال شهر واحد، ولكنه، رغم إجراء كافة الفحوصات، اتصل بزوجتي وبأولادي في بيروت ودبي ولاهاي وحرضهم علي، ولم يكتف بهذا، بل شكاني إلى صديقيه العزيزين جداً الرئيس تمام سلام وزوجته السيدة لما، فما كان منهما إلا أن أبلغاني بموعدي  مع الدكتور الرائع سمير علم، وبقي ينتظر نتيجة الكشف، لذلك، قلت فيه:”بعد أن اطمأن على صحتي غادر الدنيا”.

سامحوني إذ أدخلت عليكم الأحزان، ولكنني أتحدث عن شخص كان موجوداً في كل مفرق في حياتي طوال ثمانية وخمسين عاماً، عرفته في مصر مع ابن عمه الاستاذ نزيه والرئيس تمام سلام، فانعقدت أخوة كالتحام العطر بالزنبق. واكب زواجي وأعطيت شهادتي فيه عندما راح يخطب الحبيبة زينة نبهاني فقلت لخالها المرحوم القاضي أمين الرافعي، هو من خيرة الشباب.

تولى مديرية مرفأ طرابلس، فصارت غرفته مضافة لمختلف الأنواع من الناس وأصحاب المصالح، وكانت طريقته المرحة بالتعاطي معهم، مع رفع كلفة غير متصنعة.

راوده الطموح السياسي، ولكنه كان يتأدب في حضرة ابن عمه الشهيد رشيد كرامي، بل كان أنيسه الدائم في بقاع صفرين حيث يفصل  بيتيهما جدار وهمي.

سأكتفي بذكر محطات لا تنسى في عمري:

بعد دخول القوات السورية إلى طرابلس، أرسل لي الأخ محمود طبو رسالة صارمة بضرورة مغادرة لبنان قبل حلول الليل لأنه علم من مصادر وثيقة أن المخابرات السورية ستقبض علي لأنني كنت من المجاهرين في رفض التدخل السوري؛ ذهبت إلى أحمد وكان مديراً للمرفأ، ونقلت له الرسالة، فأركبني في سيارته وقادها بشخصه إلى المرفأ المحروس من قبل جنود الردع السوري الذين ما أن رأوه حتى رحبوا به دون تفتيش طبعاً، فولجنا من البوابة إلى الرصيف، وأدخلني إلى باخرة شحن يملكها المرحوم شوكت الحداد، فوجدت المسؤول في حزب البعث العراقي الأخ نعيم فهمي قد سبقني إلى الباخرة بتدبير من أحمد نفسه، الذي لم يغادر الباخرة إلا بعد ان رفعت مرساتها وتوجهت بنا إلى قبرص.

بعد فترة من الزمن طاردت المخابرات السورية الدكتورة نهلة شهال، وكانت قيادية في منظمة العمل الشيوعي، فصحبها في سيارته إلى مخيم البداوي حيث أقلتها بعد ذلك سيارة من القوات السودانية إلى بيروت وفي يوم من العام 1977 هاتفني إلى قبرص، وقال أنه سيأتي إلى زيارتي في المساء، ولما وصل وجدت زوجتي وولدي توفيق ورلى بصحبته، فوضعني بذلك أمام أمر واقع عندما  أخبرني عن وفاة والدي الفجائية ولما يتخط الستين عاماً، حتى لا أفكر بالذهاب لتشييعه. طوال فترة غيابي، كان سائقه حبيبه وحبيبي مصطفى الريس مثابراً على مرافقة أولادي إلى المدرسة ذهاباً وإياباً.

ومرة، كنت برفقته في زيارة الرئيس رشيد كرامي في المصيف، أراد أن يمازحني على طريقته، فقال، من أنت أيها القادم من قرية مجهولة حتى يكون لك شأن في السياسة، والحركة الوطنية فأنا عمي (يقصد المرحوم الرئيس عبد الحميد كرامي) قد جلب الاستقلال للبنان، فماذا فعلتم أنتم؟ أجبته مبتسماً، نحن روّحنا الاستقلال يلي جابو عمك، فأنفجر الرئيس رشيد كرامي ضاحكاً .

عزم النية على تشكيل قائمة لمحافظة الشمال في العام 1992، تنافس القائمة التي ضمت قادة الشمال ومنهم الرئيس المرحوم عمر كرامي إلى السيدة نايلة معوض  والسيد عصام فارس والدكتور مانويل يونس وسواهم وألح علي أن أساعده في تشكيل القائمة وأن اشترك معه في الترشح فاسميناها ويا للغرابة (قائمة الاصلاح والتغيير) فأحرزنا أصواتاً محترمة جداً رغم انعدام الامكانيات، وفاز منا المرحوم الدكتور رياض صراف.

في العام 1996 هبت الرياح لمصلحته إذ حظي بدعم الرئيس رفيق الحريري الذي اشترط أن أكون أنا من ضمن القائمة فلم  توافقه على ذلك الجماعة الاسلامية؛ حدثني أحمد وسمير جسر وقالا كاد الاتفاق يفشل لولا أنه أي أحمد- أكد للحريري عدم رغبتي بالترشح- ثم قال لي ، لك أن تسمي بديلاً لك،  فأسميت النقيب خلدون نجا.

وهكذا ترأس كتلة نيابية لا بأس بحجمها، ومما أذكر أنه طلب إلي، قبيل المهرجان المركزي للقائمة الذي أقيم في معرض رشيد كرامي، أن أختار لخطابه بداية ذات وقع، فكتبتها له وقلت، ليس المهم الكلام بل طريقة إلقائك، فكان خطاباً أثار جمهرة الناس لما يتمتع به من صوت عريض وقوي.

اعذروني على الإطالة، ولكن الحديث عن أحمد كرامي يوازي مذكراتي الشخصية، فاتوقف عند هذا الحد، وأشكر الحاج أحمد الأيوبي على حسن ظنه بقلمي، ولكن خسارتي فيه   أمرُّ من الحبر، لأنني أعلم أنه مات وفي قلبه  حسرة العمر بفقدان صبيه الوحيد مصطفى، وإن  بقي يُمَوِّهُ أساه بما يثيره من أجواء لطيفة.

لقد كان وداعه لطيفاً أيضاً إذ وقف صديقه المزمن  تمام بك في تقبل العزاء إلى جانب كبير العائلة معن كرامي الذي تصدر المأتم من أوله وحتى الموارة، وقد كان لافتاً أن يصطحب  الرئيس تمام، الدكتورة عليا كرامي إلى الضريح لكي تشرف بنفسها على تسليم والدها للتراب، ولكن ثريا لم تصل من لندن إلا بعد الدفن بساعات، فنثرت زينة دموعها فوق النور والثريا في وداعه إلى عليائه.

إنني إذ أعزي البنات الثلاثة  فإني لا أملك إلا أن أعزي أبنائي الثلاثة الذين فجعوا بغياب عمو  أحمد.

أدق هذا الناقوس بسببه وعلى نيته، وإلى اللقاء.

Post Author: SafirAlChamal