رحل مارون عيسى الخوري!.. بقلم: المحامي وهيب ططر

استلمت رسالة من صديق طفولتي عبر تطبيق الواتس آب، و قبل ان افتحها قلت في نفسي ، اللهم اجعله خيرا ، فصديقي ″الشلبي″ قلّما يرسل الي الرسائل؛

تريثت لثوان ، ثم فتحتها عساها خير، فكان الذي حسبته، انها تحتوي على ورقة نعي استاذنا المرحوم ″مارون خوري″، استاذ اللغة العربية في مدرسـة الفرير طرابلس، الذي لم يكن مدرسا فحسب، بل كان أيضا أخا كبيرا و صديقا لي و لزملائي في الصف وللكثير من عرفوه عن قرب.

كم كان يتمتع بروح الفكاهة بلكنته الفلسطينية المحببة الى قلوبنا ، وكم كان قريبا من قلوب طلابه وأصدقائه، وكم عانى مع المرض الى أن أتته المنيـّة، بعد أن حصل له شرف التعرّف الى الازمة الكبيرة التي نعيشها اليوم ، فلم يشأ ان يتابع مشاهدة فيلم الرعب الكوروني والمصرفي ، فرحل!

في وداع الأستاذ مارون، حرمتنا الايام العصيبة أن نحمل نعشه مع أولاده و ان نقف الى جانب زينــة و هتــاف، وترددت قبل أن أكتب هذه الاسطر تماما كما ترددت عندما توفي الاستاذين كمال خوري و أنطوان رستم ، فعلى يديهم تعلّمنا اصول لغـة الضاد، ترددت كي لا أخطئ في الاعراب و النحو فأستاذ اللغة سيصحح اخطائي…

ثم فكرت قليلا و قلت في نفسي: “ما بي؟ فالاستاذ لم يعد موجودا، وها هو يغادر المدرسة والحيـاة برمتها ! غادرها ولن يعود اليها! ” ورغـم ذلك بقيت مترددا، الى ان قررت الكتابة، اذ رغم علمي انني سأخطئ في اللغة، الا انني لن اتوه عن التعبير عما أحسه تجاه الاستاذ مارون!

فتحت دفتري ، ففاضت عينيّ بالدموع على مَن كان قلبه مِن ذهب، سالت دموعي لوحدها، وأحسست أن مدينة طرابلس بأسرها تبكي الاستاذ مارون ، حضرت الى ذاكرتي واقعة عمرها أكثر من عشر سنوات ، يوم قابلته في شارع عزمي، وحين استغربت كيف عرفني وأنا لم اره منذ أيام صف البكالوريا ، وسألني أين أصبحت، قلت له صرت محام ، فطبطب على وجهي بيده السمراء وقال: ” برافو يا وهيب، كيفو أبوك ؟ ” قلت له توفاه الله… فقـال لي كان صديق الطفولة الله يرحمو؛ رأيت يد الاستاذ مارون ترجف، فسألته ما بك ؟ قال لي أنا منيح بعدني عم أقرأ و اكتب.

ودّعنا بعض في لقاء خاطف كان الاخير بيني و بينه… في رحيله اليوم ننحني… وتنحني كل الأقلام، فمنذ ان انضممت لمدرسة “الفرير- طرابلس” تعرفت على شقيقه المرحوم الاستاذ كمال، في المرحلتين الابتدائية والتكميلية، الى أن بلغت الصفوف الثانوية، فكان لقائي بالاستاذ مارون الذي درّسنا مادتي اللغة العربية و تاريخ العلوم عند العرب، وكنت مع رفاقي “تلاميذ حرب”، غير آبهين لما يقـال في الصف، باستثاء ما يقوله استاذين، هو والاستاذ أنطوان عبدو استاذ اللغة الفرنسية أطال الله بعمره، في صفهما كنت احاول جاهدا قدر المستطاع الاستفادة من كل كلمة ونصح يوجه الي منهما، فما ان انهي كتابة اي شيء حتى انتظر استماع تعليقات الاستاذ مارون “أبو هتــاف”.

لم اشهد رجلاً بحكمته ووسع المعلومات والقصائد لديه، ناهيك عن محبته لنا ولمهنته والتزامه بها؛ واضافة الى اللغة، فقد علمني معنى الالتزام، وكم انا فخور بذلك، فبوجوده بيننا في الصف و في الملعب (احيانا) كنت اشعر وكأننا خلية نحل تسعى لانجاز تعليمنا المدرسي بكل اخلاص واجتهاد. من أين أبدأ فيه رحلة كلامي فيـه، وهــو الكلام كلّ الكلام؟ المعلّم، الّذي قضى حياته من التّواضع إلى التّواضع …

من أين أبدأ والاستاذ مارون كان مفرد بصيغة جمع، ادغمت فيه المتناقضات… جمع الرّقّة والصّلابة، الشّفافيّة والقوّة، العناد والدّماثة، فتلوّنت شخصيّته وتنوّعت حياته، التي تتنقّل فيها من محطّة إلى محطّة بمنذ نعومة أظفاره ، فكم هي قاسية لحظات وداعه وفراقه، وكم نشعر بالحزن وفداحة الخسارة والفجيعة، ونختنق بالدموع.

أستاذنا الكريم، إن العطاء في الحياة سر من أسرار الخلود، سر عرفه وعرف كيف يجعله نهجا ونمطا لحياته، فمهما حاول الموت، لن يمحو ذكر من أعطى كل هذا العطاء. لقد علمنا الأخلاق والقيم الفاضلة، وغرس فينا حب العلم والمعرفة، ونمّى في اعماقنا قيم المحبة والخير والانتماء الى اللغة العربية الصعبة المراس، فطوّعها “مارون خوري” باسلوبه الدمس ليزرعها في نفوسنا، شرف كبير لي، انني كنت واحداً من طلابه وتلامذته.

وبما أن الايام لم تسعفني لأتعرف أكثر على شخصية ذاك الاديب، فكان عزائي بان امسك قلمي لكتابة كلمات تليق بـ “معلّمي”، ولأهمس في أذنه قائلا: “انني لن استطع المرور في شارع عزمي، في المكان الذي قابلتك به للمرة الاخيرة ، دون التمهل قليلا لعلك كنت هناك تنتظر تحيتي وتسمعني تعليقتك على ما كتبت يوم وفاتك فتصحح أخطائي اللغوية والاملائية.”

رحل الاستاذ مارون عيسى خوري لكنه باقٍ في قلوب تلامذته، فبإسمي الشخصي وبالنيابة عن زملاء صفي أدعو له، بان يتغمده المولى بواسع رحمته وان يلهم اهله ومحبيه الصبر والسلوان.

″انا لله وانا اليه راجعون″

Post Author: SafirAlChamal