عن العهود القوية واستعادة الحقوق!… مصطفى العويك

يُحكى قديما ان ملكا أراد ان يختبر صبر شعبه على ظلمه فأرسل أقرب الناس اليه الى السوق، فسأل: من منكم باع اليوم بدينار؟ فقال تاجر القمح أنا، فقال الرسول آتيني به، فأخذه ووضعه في صرته، ثم سأل من منكم استضاف اليوم فقيرا فأكرمه، فأجاب التاجر نفسه انا، فسأله، وبكم أكرمته؟ قال بوجبة غذاء وبما تيسر مما بيني وبين الله، فقال له عليك ان تؤدي لي مثل ما فعلت، وقال ثالثة: من منكم يا معشر التجار يصدق ما قاله تاجر القمح؟ فعلت اصوات الجميع: كلنا نصدقه، فانه معلوم لدينا صدقه وامانته وكرمه، فنظر اليهم نظرة استهزاء وقال: اذن على كل من يصادق على كلامه ان يؤدي لي مثل ما أدى، فتعجب التجار من مقولة الرسول، وقالوا كيف ذلك ولماذا؟ اجابهم: لاجل العدالة..

ولتحقيق العدالة في لبنان هذه الايام، يراد من الجميع ان يكونوا تجارا في سوق الملك، مؤدين له ما يطلبه، فتأديتهم اسهام منهم في اعادة الحقوق الى أهلها، وتأكيد على كون المؤدي مواطنا صالحا في دولة عهدها قوي.

هذا الملك الذي اوهم ناسه أنه على غير دين من سبقه في الادارة والاقتصاد والسياسية واحقاق الحق، وجده الناس على حين غفلة في رغيف خبزهم يتذوق طعم الطحين فلم يبق منه شيئا، خرج عليهم من جيبة قاض ذي ضمير فتجول في محضر التحقيق واضعا كسرة هنا وضمة هناك، فغيّر وبدّل في الحيثيات والاستنتاجات، وذهب بعدها الى الحكم فاستلقى بين سطوره ليعيد صياغة الفقرة الحكمية بما تقتضيه علامات الاعراب المستحدثة.

سكان المملكة لم يحتملوا رسول ملكهم رغم انهم سايروه في بداية الامر، لكنه حينما بدأ يوغل في الطلبات وسلب الحقوق تحت ذرائع شتى لا أساس لها في قاموسهم، أرسلوا الى الملك رسالة مقتضبة قالوا فيها: “الزمان زمانك، فاجعله لك لا عليك، واعلم ان الوقت يمضي كالسيف، فان مضى لا يعود، فان ناصرتنا كنا سيفك، وان سلبتنا حقوقنا كنا برقبتك، ولا تسلط علينا الافاعي، فاننا اكتفينا من العقارب.”

لم يستجب الملك لرسالة السكان، أمر خادمه ان يدوس عليها ويرميها في النار، وأرسل وراء كبير مستشاريه ليشور عليه في الأمر، فأشار عليه ان يهدم السوق على رأس من فيه، لانهم تجرأوا على مراسلته، والاعتراض على سياسته الحكيمة، وبعد أن اقتنع الملك بكلام كبير مستشاريه ونادى أمير الجند أن يأخذ أعتى جنوده لهدم السوق، استسمحه شيخ حكيم كان يداوم على الجلوس في ديوانه قائلا: اتسمح يا مولاي ان ادلو بدلوي في هذا الأمر، فقال طبعا تفضل انت حكيم ممكلتي، فأثنى على الملك وقال: ان رسولك أمين في نقل رسالته، وان التجار على حق في رسالتهم، فالتاجر يا مولاي مدماك الدولة، ومن يهدم السوق يزعزع بنيانه، واني اراك رجلا تكثر من مدح دولتك وتدعو الناس الى الثبات فيها والزود عنها، فان ترى أن قتل هؤلاء الناس عمدا او جعلهم امواتا وهم احياء، يرفع في مقام الدولة فتقدم ولا تسل عن أمر دون ذلك، وان كنت ترى فيه عكس ذلك فاستدرك الامر ودعّم بهم بنيانك، فان تجميل الشر عند عدم القدرة على الاستغناء عنه أفضل بكثير من استعدائه، وان الامر لملكنا، وهو صاحب الرأي الراجح.

فسكت الملك هنيهة وانتفض على الشيخ الحكيم قائلا: امضيت العمر تنظّر في ديواني، حتى جعلتني اقتل في الحرب لاجل المُلك اخواني، وها أنت الان تدافع عن شرذمة ليس لهم حق، انما سلبوا حقوقي على أيام من سلف، فوالله لابدأ بك قبلهم، وليقال عني الجلاد والجاني.

فتبسم الشيخ الحكيم، وتمسك بعصاه ليقف على قدميه، وقال بلغة رصينة هادئة: ايها الملك لم تعد الحياة تستهويني، وانه لشرف ان يقال عني تعقلنت في زمن مجنون، فسر واحرق واقتل واصلب، فانك بهذا تزيل حكمك وتقرب نهايتك ولن تنفعك طويلا العزّة في الاثم، فافعل ما تشاء والزمان كفيل بفعل ما يشاء الله.

Post Author: SafirAlChamal