النهار بيضاء: أكبر من أزمة جريدة… عبد الكافي الصمد

يروي ناشر جريدة ″النهار″ الراحل غسان تويني، في مذكراته وبعض لقاءاته ومقابلاته، أن مكاتب جريدته البيروتية العريقة كانت تشهد في سنوات ما قبل الحرب الأهلية 1975 ـ 1990 تحديداً، إجتماعات سياسية كان يجري فيها تشكيل حكومات وتسمية وزرائها، ما يعكس أهمية الجريدة في الحياة السياسية اللبنانية، إلى حدّ جعل البعض ـ حينها ـ يعتبر أن السياسية اللبنانية تصنع، بعضها طبعاً وليس كلها ـ في جريدة ″النهار″.

يوم أمس، صدرت جريدة ″النهار″ بيضاء، بثماني صفحات بلا أخبار ولا مقالات، خالية إلا من إسمها في أعلى الصفحة الأولى مع شعار الديك الشهير، وعلى يمينه صورة جبران تويني، رئيس تحريرها الراحل ونجل غسان تويني، وعلى يسارها عناوين الجريدة على الإنترنت أو على مواقع التواصل الإجتماعي.

صدور الجريدة على هذا النحو جعل كثيرين يظنّون أن الخطوة مقدمة لتوقف النهارعن الصدور، شأنها في ذلك شأن صحف لبنانية أخرى إحتجبت في السنوات القليلة الماضية، مثل السفير والإتحاد والبلد .. وأخيراً الأنوار.

لكن رئيسة تحرير النهار نايلة تويني، حفيدة غسان وإبنة جبران، أكدت أمس في مؤتمر صحافي في مبنى الجريدة بوسط بيروت، أن الجريدة بألف خير، ومستمرة ورقياً وإلكترونياً، لكننا نريد أن يكون بلدنا بألف خير، متمنية أن يكون إطلاق الجريدة شعار نهار أبيض بوجه الظلمة، نقطة تحول وناقوس خطر تجاه الأزمات”، وداعية “المسؤولين لتشكيل الحكومة في أسرع وقت.

مقارنة النهار بين الأمس واليوم تبدو سوريالية، فهذه الجريدة التي كانت السياسة اللبنانية تصنع بين جدران مكاتبها، أو على أقل تقدير تتأثر بها بشكل كبير، باتت في السنوات الأخيرة بعيدة عن مواقع صنع القرار، وتأثيرها تراجع كثيراً شأنها شأن بقية الصحافة اللبنانية ككل، وتعاني من أزمات عدّة لا تختلف كثيراً عن الأزمات التي عانت وتعاني منها الصحافة اللبنانية، التي شهدت تراجعاً حاداً بات يهدّدها وجودياً.

أبرز هذه الأزمات التي أدت إلى تراجع تأثير الصحف ودورها، يردّها أصحابها والمسؤولين عنها إلى التقدّم التكنولوجي الذي أدى إلى تراجع عدد القراء، الذين باتوا يفضّلون قراءتها على شبكة الإنترنت وليس ورقياً، خصوصا فئة الشباب منهم، أو اعتماد مواقع إخبارية مختلفة تُقدّم خدماتها الصحافية بشكل أسرع وأفضل من الصحف الورقية، ما أدى إلى تراجع نسب مبيعات الصحف بشكل كبير، وكذلك تراجع الإعلانات والإشتراكات، مصحوباً بتراجع تمويلها لأسباب عدة يتعلق بعضها بالوضع اللبناني وبعضها الآخر بالوضع الإقليمي.

وبرغم أن هذا الواقع الصعب ليس إبن البارحة، بل ظهرت ملامحه منذ أكثر من عقد ونيّف من الزمن، على الأقل، فإن كل التحذيرات والإقتراحات التي رُفعت إلى أصحاب الصحف في حينه، محذرة إياهم من أزمة كبيرة مقبلة على الصحافة اللبنانية ككل، لم تجد أي صدى، بعدما رفضوا أو لم يقدروا أو لم يرغبوا بالسير في خطط إنقاذ وتطوير قبل فوات الأوان.

فإلى جانب أنهم تأخرّوا سنوات في اعتماد التكنولوجيا الحديثة في مجال الطباعة، مقارنة بغيرهم، أو اعتماد مواقع خاصة بصحفهم على مواقع الإنترنت تشدّ القارىء، فإن أصحاب الصحف بقوا تقيلديين جداً، فلم يطوّروا صحفهم ليحوّلوها الى مؤسسات صحافية بكل ما للكلمة من معنى تتمتع بالمهنية والخبرة والعمل بجدّ على تحديثها واستمرارها، ولم يطوّروا قانون العمل في الصحافة ولا تفعيل دور النقابة (أو النقابتين: نقابة الصحافة ونقابة المحررين)، إنما أبقوا، في الأغلب، صحفهم مغلقة وذات طابع فردي أو عائلي، واعتمدوا على تمويل غير مرئي كان يأتيهم من داخل لبنان أو من خارجه، ولم يحافظوا أو يجلبوا كفاءات صحافية لهذا الغرض، ولم يجعلوا صحفهم منابر حرّة ومتنوعة ومحترفة للآراء والمواقف والتحليلات المهنية الدقيقة، ولم يواكبوا التطوّر الذي طرأ على الصحافة الورقية في أوروبا وأميركا، التي بقيت محافظة على مكانتها ودورها وتأثيرها، وهي تطوّرت شكلاً لجهة إعتمادها حجم التابلويد، ومضموناً في استغنائها عن الخبر، مقابل تركيزها على تحليل الخبر وتمحيصه، وعلى مقالات الرأي وعلى المقابلات والتحقيقات الإستقصائية.

كل ذلك يجري في الخارج، بينما لم يكلف أهل الصحافة الورقية في لبنان أنفسهم لا بتطوير صحفهم ولا بالبحث عن سبل الخروج من أزمة وجودية تهددهم، مكتفين بالبكاء والوقوف على أطلال مجدٍ صحافي لبناني أصبح من الماضي.


Post Author: SafirAlChamal