منتدى بطرسبورغ الإقتصادي.. بأبعاد جيو- سياسية إستراتيجية… د. زكريا حمودان

بعدما دخلت العولمة كل دولة في هذا الكون، وبعدما أصبح واضحًا أنَّ العالم دخل في القرن الواحد والعشرين في عالم وضوح الرؤية في كل ما يخص المنظمات الدولية التي تعمل تحت وصاية الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى وضوح المشهد الجيو- سياسي الذي فرض على الولايات المتحدة الأمريكية القبول بفكرة أنَّ العالم اليوم لم يعد عالم القطب الواحد وأنَّ دعوة الرئيس بوتين الإستراتيجية لبناء عالم متعدد الأقطاب منذ بداية القرن الحالي بات أمرًا واقعًا لا خيار أمام الولايات المتحدة سوى التأقلم معه. وبعدما تحولت روسيا بخطى ثابتة نحو بناء سياستها الإقتصادية تدريجيًا ورفعت الناتج المحلي أضعافًا منذ تسلم الرئيس بوتين السُلطة في العام 2000 حتى يومنا هذا، أصبح اليوم “منتدى بطرسبورغ الإقتصادي الدولي” وبنسخته الـ22 موعدًا للقاء الإقتصاد العالمي الحر بحضور كبار المستثمرين العالميين في مختلف المجالات الإستراتيجية بالإضافة إلى جانب سياسي مهم جدًا يتمثل بحضور رؤساء دُوَل وحكومات من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، الأمر الذي سيُعطي المؤتمر بعدًا جيو-سياسيًا مهم جدًا في هذه المرحلة بالتحديد.

الأبعاد الجيو- سياسية للمنتدى: المنتدى الإقتصادي هدف أوروبا وشرق آسيا بالإضافة إلى المتوسط

اللقاء في بطرسبورغ كل عام له ميزته الجيو- سياسية، كما يُظهر الإقبال على المنتدى شكل الأجواء السياسية في العالم، ويمكن وصف أهمية المؤتمر بالأحداث المستجدة في العالم على مختلف المستويات. وإذا نظرنا إلى هذه الفترة التي سينعقد فيها المؤتمر نجد أنَّ روسيا بموقعها الجغرافي الأكبر في العالم باتت نقطة إلتقاء بين أوروبا، شرق آسيا ودُوَل الشرق الأوسط، خاصةً بعد إصرار الرئيس الفرنسي الحضور إلى المنتدى في جلسته العامة ليشارك إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة الياباني، ورئيسة صندوق النقد الدولي.

هذا الإهتمام الدولي له أبعاد جيو- سياسية كبيرة جدًا كما له أبعاد إقتصادية- جيوسياسية. تتركز الأبعاد الجيو- سياسية للمؤتمر بأنه جامع لجغرافيا الشرق والغرب بالإضافة إلى الوسط، أي شرق آسيا والقارة الأوروبية وإلى جانبهم الشرق الأوسط. وإذا نظرنا إلى نقاط التلاقي بين شرق آسيا وأوروبا سنجد الجغرافيا الروسية والتي تشكل العمق السياسي للقطب المواجه للسياسة الأمريكية في العالم. أما إذا أدخلنا المعادلة الشرق أوسطية سنجد العمق الإستراتيجي للغاز الروسي حيث تضع روسيا ثقلها من أجل حماية هذه المنطقة من الغطرسة الأمريكية. هذا التلاقي بين دُوَل أوروبا وشرق آسيا بالإضافة إلى الشرق الأوسط دفع الولايات المتحدة إلى الخروج عن طورها في المرحلة الأخيرة عبر فرض مجموعة عقوبات على رجال أعمال روس كما خروج الولايات المتحدة من الإتفاق النووي مع إيران وإنتقاد المجتمع الدولي لها، خاصةً الإتحاد الأوروبي.

إنَّ الأبعاد الجيو- سياسية للمؤتمر تتبعها أبعاد إقتصادية – جيوسياسية تتمحور حول إلتقاء الثقل الإقتصادي للدول المشاركة في الإقتصاد الروسي الأمر الذي يعزز الرؤية الإقتصادية المشتركة لهذه الدولة في القضايا الجيو- سياسية وأهمها ما يدور في الشرق الأوسط والعمل مع روسيا من أجل الظفر في مشاريع ضخمة عند إنطلاق إعادة إعمار الداخل السوري. كما تعمل دول شرق آسيا وقسم كبير من دُوَل أوروبا على تعزيز العلاقة مع العملاق الروسي في سبيل الحفاظ على أمن الطاقة فيها وكذلك محاولة الإستثمار في الشرق الأوسط عبر الذراع الروسي الذي يقود محورًا كبيرًا في هذه المنطقة ويتجه ليحقق فيها إنتصارات واسعة سيكون لها نتائج إقتصادية كبيرة على مختلف الدُوَل التي عندها تقارب إقتصادي مع روسيا.

إنطلاقًا من ما تقدم، أصبح واضحًا أنَّ أهمية المنتدى الإقتصادي في بطرسبورغ اليوم هي أهمية إقتصادية – جيوسياسية، وأنَّ روسيا هي مركز قرار جيو- سياسي عالمي له تأثيراته الإقتصادية في العالم، الأمر الذي يجعل من منتدى بطرسبورغ الإقتصادي نقطة جذب للمستثمرين من مختلف أنحاء العالم. 

الإقتصاد-السياسي الروسي في منتدى بطرسبرغ

إنَّ إستراتيجيا الدُوَل الكبرى في العالم اليوم تتمحور حول قدرة كل دولة على بناء إقتصادها وضمان إستقلاليته عن مختلف العوامل وخاصةً السياسية، فتحصل على الإستقرار الكُلي داخليًا وخارجيًا. هذا الأمر إستطاعت روسيا توفيره من خلال إستراتيجيا فصل السياسة عن التعاطي الإقتصادي والتبادل التجاري مع مختلف دُوَل العالم حتى تلك الدوَل التي لا تلتقي معها سياسيًا فهي تحافظ على التبادلات التجارية معها كبولندا التي تستورد منها 7.7 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا وجورجيا التي تستورد 1.9 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويًا، الأمر الذي عزز ثقة العالم بالإقتصاد الروسي من جهة، كما عزز الثقة بدخول الإقتصاد الروسي الأسواق الخارجية في الدوَل التي تطمح بتطوير إقتصاداتها في مصادر الطاقة (النفط والغاز).

كما باتت روسيا اليوم محط أنظار الكثير من الدُوَل النامية التي تبحث عن بناء إقتصادها السياسي تحت جناح الدولة الروسية، فمن جهة تضمن هذه الدُوَل جزء كبير من الإستقرار السياسي الذي قد تقدمه دولة عظمى مثل روسيا لحلفاءها، بالإضافة إلى الثقة التي إستطاعت أن تبنيها سياسة الرئيس بوتين لدى الكثير من الدُوَل التي إحترمت جدًا تمسك روسيا بالرئيس السوري في وجه المؤامرات التي حيكت له من الخارج. إنَّ هذه الثقة السياسية التي فقدتها مختلف الدُوَل خلال تعاطيها مع الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت اليوم عامل جذب سياسي-إقتصادي لعددٍ من هذه الدُوَل كالعراق التي سيشارك وزير نفطها السيد جبار اللعيبي في المنتدى.

أما على مستوى الإقتصاد-السياسي العالمي فمن الواضح بأنَّ مشاركة رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد سيكون له دلالات هامة أهمها ثقة المجتمع الدولي بالإقتصاد الروسي من جهة، بالإضافة إلى الثقة الكبرى بالمنتدى الإقتصادي بحد ذاته وترقب نتائجه التي سيكون لها إنعكاس ضخم على الإقتصاد الروسي.

“تنوع الإقتصاد والإستثمارات” أحد أهم أهداف الرئيس بوتين

إنَّ الإقتصاد الروسي الذي تحول في المرحلة السابقة من إقتصاد مركزي منغلق على ما يتضمنه إلى إقتصاد السوق وهو النموذج الأكثر إنفتاحًا، إستطاع أن يُنشِئ وبوتيرة تصاعدية متسارعة إقتصادًا قويًا تحت إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يعتمد بجانب كبير منه في النمو الإقتصادي على عائدات الطاقة. أما اليوم، وكما يُظهر الجانب الأساسي للمنتدى والمتعلق بدعم الإقتصاد الروسي، فإنَّه يتحول تدريجيًا إلى إقتصاد متحرر من أي ضغوطات سياسية قد يفرضها إعتماده على مصادر الطاقة التي باتت عرضة للكثير من الحروب. إنطلاقًا منه كان عنوان المنتدى “بناء إقتصاد الثقة” الذي سينقل روسيا إلى ساحة لإستثمارات الكثير من الواثقين بأهمية الإستثمار في دولة عظمى مثل روسيا.

إنَّ الثقة التي يبحث عنها الرئيس بوتين في خطته لمستقبل روسيا تكمن في خلق إقتصاد متنوع ويعتمد على مصادر تمويل تطغى على مصادر الطاقة، يكمن ذلك في رفع نمو الإقتصاد الروسي إلى مستوى أعلى من المتوسط العالمي، يتزامن ذلك مع عملية تنمية شاملة للبنى التحتية وتطوير البنية الرقمية وتسهيل عمليات التصدير ورفع القدرات التصديرية.

يتمحور المنتدى الإقتصادي حول أربع مواضيع أساسية (“الإقتصاد العالمي في عصر التغيرات”، “روسيا: إستخدام إمكانيات النمو”، تكنولوجيات من أجل القيادة” و”رأس المال البشري في الإقتصاد الرقمي”) تدور جميعها في فلك تنمية الإقتصاد الروسي وتعزيز مواجهته للأزمات الإقتصادية المحلية والدولية في عصر التغيرات، بالإضافة إلى تطوير عدد من المجالات في الشق التكنولوجي من خلال حسن إستخدام إمكانيات النمو.

إستراتيجيا الإقتصاد الروسي في منتدى بطرسبورغ

أصبح من الواضح أنَّ السنوات ال18 من حكم روسيا في القرن الواحد والعشرين كانت مفصلية ومؤثرة على مستوى العالم برمته من حيث التوازنات السياسية والتي أعطت أبعاد إقتصادية بدأت تظهر ثمارها اليوم.

إنَّ المنتدى الإقتصادي الدولي في آخر الشهر الحالي في بطرسبورغ هو نتيجة عمل دؤوب للقيادة الروسية على الساحة العالمية، كما سينتج عنه نتائج إستثمارية جديدة للإقتصاد الروسي ستعزز قدرة الإقتصاد الروسي كما ستثَبِّت دور روسيا في الملفات الدولية على مستوى العالم.

                                                           د. زكريا حمودان

مدير المؤسسة الوطنية للدراسات والأبحاث

Post Author: SafirAlChamal