يوم خُنْت جدي… ساندي الحايك

جاءني صوت أمي مرتجفاً عبر سمّاعة الهاتف، قالت باختصار: ″جدك تعبان، لازم تيجي تشوفيه″. أنهيت الاتصال معها من دون أي انفعال يُذكر. تجمدت في مكاني وقد عُلّقت عيناي بالسقف.

في ثوانٍ عاد شريط الماضي ليمرّ كالبرق الخاطف داخل رأسي. تذكرت كيف كانت أمي تصف جدي بـ″هِتلر″. كان قوي البنية، طويل القامة بكتفين عريضين وشاربين كثيفين أبيضين وقبضة يدٍّ قوية. إمتاز بطبعٍ حادٍ لدرجة القسوة غير المبررةِ أحياناً. معظم رجال وشباب القرية كانوا يخشونه، ويتحاشون المرور على الطريق المُحاذية لمنزله. تروي خالتي أنه في إحدى المرات لحق بـشابيين كانا على متن دراجة نارية وأشبعهما ضرباً لأنهما اعتمدا ″التشفيط″ عند مرورهما قرب المنزل. وهو على حافة الرحيل، بدأت أمي تبحث عن أعذارٍ له: ″كنّا عيلة كبيرة فيها 4 شباب و4 بنات وعايشين بفقر وتعتير.. منيح يلي كان مشبّعنا الخبز″.

كافح جدي لإطعام صغاره. قضى عمره متنقلاً بين صخور شكا، يقتلع بعضها ويحوّل بعضها الآخر رماداً. ربما استمد جبروته من الصخور الصلبة تلك، أو ربما استوت مرارة الكأس مع عَلقم أيامه إلى أن بات صارماً  كالطاغية؟!

لا أدري لماذا أتردد في زيارته. أعرف أنه يشتاق إلى أحفاده الكُثر. ينهمك ليلاً قبل موعد نومه بتعدادهم وتكرار أساميهم واحداً واحداً. أعرف أيضاً أنه إن رآني سيذكُرني جيداً، بالرغم من أن خطوط النسيان بدأت بالتقدم أشواطاً على ذاكرته في كباش الأيام الأخيرة.

أعرف أن تفاصيل وجهي استثنائية بالنسبة له، فأنا لا أشبه أقراني من أحفاده. لطالما سمعته يقول ″لمين طالعة سودا هيك هالبنت!″. الفتيات الجميلات في سلالة العائلة جميعهن من أبناء البشرة البيضاء إلا أنا! أعتقد أن قدومي إلى هذه الدنيا، مفتونة ببشرة سمراء داكنة، زعزع معايير الجمال عندنا. لكن لا يهم. أعرف جيداً أنني بمجرد أن أطلّ برأسي من باب غرفته في المستشفى سيتذكر اسمي ويعود ليُكرر ما قاله لأمي مرات عدّة: ″شو هالبنت يلي عندك! ليش عنيدة هيك؟″. يُحب جدي الفتيات المُطيعات، أما أنا فعلى العكس تماماً. كنت المتمردة ″يلي ما بتسمع الكلمة″. الفتاة العنيدة يلي ″راسها يابس″. لطالما ردد تلك العبارة على مسمعي وهو يحاول تأنيبي بنظرات عينيه الثاقبة. لكنه بالرغم من ذلك أحبني. كان ينهر بصوته الحاد كل من يتجرأ من ″ذكور″ العائلة على تأنيبي لوقوفي لساعات متواصلة على شرفة المنزل. وكان ينبري للدفاع عني بشراسة إن حاولت أمي منعي من المبيت عنده. كنت أتذرع باشتياقي الدائم له لأمضي أياماً طويلةً في داره. وكان يُقابل رغبتي بعطف ومحبة كبيرين. كان يحضنني متمتماً: ″أهلا يا بيّتي أهلا″، فأنهل من عطفه الكثير ثم أعود للتلهي بشؤوني الأخرى.

كنت المراهقة المُحتالة التي أحبت جدها لدرجة الخيانة.

كنت أنسل من جلسة ″الديوان″ مع خالاتي في غرفة الجلوس كالعفريت لأقف على الشرفة بالقرب منه. أتبادل معه أطراف الحديث في البداية، وعندما يغرق في سرد الروايات كنت أُمرر نظري في الأفق لتلتقي عيناي بأعين أحد شباب الضيعة الوسيمين. يغمزني فأرسل له قبلةً. ثم نتواعد للقاء قريب وجدي لا يزال يُحدثني بعفويةٍ مطلقةٍ. أجدني أتأرجح بقربه بين المراهقة والطفولة.  أنظر إليه مرة أخرى فأجده مسترسلاً فرحاً، فأقفز في حضنه وأهيم في أحلامي البريئة كـطفلةٍ.   

حقق لي جدي الكثير من الرغبات من دون أن يعي. كان شريكي في لحظات الجنون ودافعي نحو تحقيق رغباتي على اختلافها. وددت لو أنني كنت أملك القدرة لأعترف له بالكثير من مكنوناتي، لكن في ذلك اليوم خارت قواي وخانتني عزيمتي. امتنعت عن زيارته. رفضت أن أراه يُصارع مرضه فوق فراشٍ باردٍ، نحيل الجسد وقاتم الروح. أنا التي عرفته مصارعاً منتصراً لا يخشى هبوب الريح. عرفته على طريقتي وأحببته على طريقتي أيضاً. مع رحيله سينسى لساني كيف ينطق اسمه. ربما أنسى كيف أكتب له، ولكنني لن أنسى أنني خنته لحدود العِشق.

الرحيل يفتح كوّةً نازفةً في أعماقنا. يُعزز صِلتنا بالندم ويودي بِنا إلى جحيم الاشتياق. حتماً، أشتاق لخيانته… الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.

Post Author: SafirAlChamal